الحذف ظاهرة لغوية تشترك فيها اللغات الإنسانية، لكنها في اللغة العربية أكثر ثباتًا ووضوحًا؛ لأن اللغة العربية من خصائصها الأصيلة الميل إلى الإيجاز والاختصار، والحذف يعد أحد نوعي الإيجاز وهما: القصر والحذف، وقد نفرت العرب مما هو ثقيل في لسانها، ومالت إلى ما هو خفيف.
تعريف الحذف:
الحذف في اللغة: القطع والإسقاط؛ جاء في الصحاح: "حَذْفُ الشيءِ: إسقاطُه. يقال: حَذَفْتُ من شَعْري ومن ذَنَبِ الدابَة، أي أخذت... وحَذَفْتُ رأسَه بالسيف، إذا ضربته فقطعتَ منه قطعةً"[1]. وفي لسان العرب: "حذَفَ الشيءَ يَحْذِفُه حَذْفاً قَطَعَه من طَرَفه والحَجَّامُ يَحْذِفُ الشعْر من ذلك... والحَذْفُ الرَّمْيُ عن جانِبٍ والضرْبُ"[2].
لقد عني القدماء - من نحاة وبلاغيين - بدراسة هذه الظاهرة، لكن بعضهم خلط بين الحذف والإضمار؛ ولذلك قال أبو حيان[3]: "وهو موجود في اصطلاح النحويين، أعني أن يسمى الحذفُ إضماراً"[4].
وقال الشهاب الخفاجي[5] في حاشيته على تفسير البيضاوي[6]: "وقد يستعمل كلٌّ منهما بمعنى الآخر كما يعلم بالاستقراء".
لكن بعضهم تنبه إلى ضرورة التفريق بين الحذف والإضمار؛ ومن ذلك الفارسي حيث يقول: "وقد يحذف حرفُ الجر، فيصل الفعلُ إلى الاسم المحلوف به وذلك نحو: اللهَ لأفعلنَّ، وربما أُضمِر حرفُ الجر، فقيل: اللهِ لأفعلنَّ".
بل ونجد ابن مضاء القرطبي[7] ينتقد هذا الخلط بين المصطلحين واستعمالهما بمعنى واحد، ويفرق بينهما قائلاً: "الفاعل يضمر ولا يحذف"[8]، وذلك حيثما أمكن تقديره بضمير مستتر فهم يقصدون بالمضمر ما لا بد منه، وبالمحذوف ما يمكن الاستغناء عنه.
ويذكر البلاغيون ضرورة تقدير المحذوف؛ حتى لا يُحمل الكلام على ظاهره، وحتى يكون امتناع ترك الكلام على ظاهره ولزوم الحكم بالحذف راجع إلى الكلام نفسه، لا إلى غرض المتكلم[9].
قال عبدالقاهر الجرجاني[10]: "هو باب دقيق المسلك لطيف المأخذ، عجيب الأمر شبيه بالسحر؛ فإنك ترى به ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتم ما تكون بيانا إذا لم تبن"[11].
أسباب الحذف:
هي أسباب حاول بها النُّحاة تفسير الظاهرة في مواضعها وأنواعها المختلفة، وبعض هذه الأسباب قد لا يطَّرد في كل موضع، وبعضها يعلل الحذف لأكثر من سبب، ومواضع أخرى لا يُعَلَّلُ الحذف إلا بسببٍ واحد، ومن أسباب الحذف:
1- كثرة الاستعمال:
هذا التعليل كثير عند النحاة، وهو أكثر الأسباب التي يفسرون بها الظاهرة، ومن أمثلة ذلك: حذف خبر لا النافية للجنس كثيرًا مثل: لا إله إلا الله، لا ريب، لا شك، لا مفر، لاسيما. ومثل الأقوال التي كثر استعمالها؛ كقولنا: الجار قبل الدار. أي: تخير الجار قبل الدار. وقولنا: بسم الله. أي: بدأت بسم الله.
2- طول الكلام:
وذلك عندما تطول التراكيب؛ فيقع الحذف تخفيفًا من الثقل؛ كجملة الصلة التي طالت، وأسلوب الشرط، وأسلوب القسم؛ ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [يس: 45]، فالجواب لم يُذكر، وتقديره: "أعرضوا"؛ بدليل سياق الآية التالية لها.
وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} [الرعد: 31]، التقدير: لكان هذا القرآن.
3- الضرورة الشعرية: ومن أهم الضرائر الشعرية القائمة على الحذف:
أ- حذف حرف متحرك أو أكثر من آخر الكلمة:
مثل قول لبيد: دَرَسَ المَنَا بمُتَالِعٍ فأَبانا
الأصل: المَنَازل.
ب- حذف نون المثنى وجمع المذكر السالم؛ ومن ذلك قول امرئ القيس:
لها مَتْنَتَانِ خَظَاتا كَمَا أَكَبَّ عَلَى ساعِدَيْهِ النَّمِرْ
الأصل: خَظَاتان.
ج- حذف النون الساكنة أو التنوين من آخر الكلمة؛ ومن ذلك قول العباس بن مرداس السلمي:
فما كان حِصْنٌ ولا حَابِسٌ يَفُوقانِ مِرْدَاسَ في مَجْمَعِ
الأصل: مرداسًا.
د- حذف حرف المد أو ما يشبهه من آخر الكلمة؛ ومن ذلك قول الأعشى:
وأَخُو الغَوَانِ متى يَشأْ يَصْرِمْنَهُ ويَعُدْنَ أَعْداءً بُعَيْدَ ودادِ
الأصل: الغَوَانِي.
هـ- حذف إشباع الحركة أو حذف الحركة؛ ومن ذلك قول مالك بن خريم الهمداني:
فإِنْ يَكُ غَثَّاً أَوْ سَميناً فإنني سأَجْعَلُ عِينيهِ لِنَفْسِهِ مَقْنَعَا
الأصل إشباع الهاء في كلمة نفسه.
و- حذف حرف أو حركة من داخل الكلمة؛ ومن ذلك قول ابنُ الزِّبَعرَى:
حينَ ألْقَتْ بقُباءٍ بَرْكَها واسْتَحَرَّ القَتْلُ في عَبدِ الأشَلْ
يريد: عبد الأشهل.
ز- الاجتزاء؛ وهو حذف معظم الكلمة؛ ومن ذلك قول حكيم بن معية التميمي:
بالخَيْرِ خَيْراتٍ وإِنْ شَرًّا فَ ولا أُرِيدُ الشرَّ إِلا أَنْ تَ
أي: إن شرًّا فَشر، ولا أريد الشر إلا أن تشاء.
ح- حذف حرف من أحرف المعاني؛ ومن ذلك قول حسّان بن ثابت:
مَنْ يَفْعَلِ الحَسَناتِ اللهُ يشكرُها والشَّرُّ بالشرِّ عندَ الله مِثْلانِ
أي فالله يشكرها، حذفت الفاء الواجب اقترانها بجواب الشرط؛ حيث إن جواب الشرط جملة اسمية.
4- الحذف للإعراب:
مثل الحذف في حالة الجزم ومن ذلك حذف الحركة نحو: (لم أكتبْ). وحذف الحرف؛ مثل حذف النون من الأفعال الخمسة عند النصب أو الجزم نحو: (لم يلعبوا). وحذف لام الفعل الناقص في حالة الجزم؛ نحو قوله تعالى: {وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ} [القصص:88].
5- الحذف للتركيب:
فنجد حذف التنوين في التركيب الإضافي؛ نحو: (شاهدت طالبَ العلم) بدلاً من (طالبًا)، أو حذف النون؛ نحو: (مسلمو الهند متعاونون) بدلاً من (مسلمون).
6- الحذف لأسباب قياسية صرفية أو صوتية؛ وهي:
أ- التقاء الساكنين:
إذا التقى ساكنان في كلمة واحدة أو كلمتين، وجب التخلص من التقائهما بحذف أولهما أو تحريكه؛ ومن ذلك حذف لام الفعل الناقص عند الاتصال بواو الجماعة مثل: يسعون، وحذف عين الفعل الأجوف في حالة جزمه مثل: (لم يَصُمْ).
ب- توالي الأمثال:
ومن مظاهره: التقاء نون الرفع من الأفعال الخمسة مع نون التوكيد؛ حيث تحذف نون الرفع وتبقى نون التوكيد.
ج- حذف حروف العلة استثقالاً:
الفعل المثال الذي فاؤه واو تحذف في المضارع استثقالاً؛ نحو: (وقف - يقف) (وعد - يعد)، بدلاً من (يَوْقَفُ) و (يَوْعَدُ).
د- حذف الهمزة استثقالاً:
مثل همزة الفعل (رأى) تحذف في المضارع فيقال: (يرى) بدلاً من (يرأى).
هـ- الحذف للوقف:
ويكون في النطق لا الكتابة؛ مثل حذف الضمة والكسرة المنونتين عند الوقوف؛ نحو: (هذا زيد) و(مررت بزيد)؛ فننطق بالدال من كلمة (زيد) ساكنة.
و- صيغ الجمع:
فتحذف تاء التأنيث في الجمع بالألف والتاء؛ فنقول: (ورقات، عائلات، سرقات)، جمعًا لـ (ورقة، عائلة، سرقة).
ز- صيغ التصغير:
إذا صغرت (السَّفَرْجلة) كانت لك أوجه أحدها أن تقول (سُفَيْرِجَة) فتحذف اللام في التصغير وإن شئت قلتَ (سُفَيْرِلة) فتحذف الجيمَ[12].
وكذلك (عَنْدَلِيب) تصغر على (عَنَادِل) و (عَنَادِب).
ح- الحذف للنسب:
مثل حذف تاء التأنيث؛ فنقول في النسب إلى فاطمة: (فاطميّ)، وحذف بعض الحروف مثل (جُهَنِيّ) في النسب إلى جهينة، وحذف عجز الجملة المنسوب إليها وحذف عجز المركب المزجي، فتقول في تأبط شرًّا: "تأبطيّ"، وفي بعلبك "بعليّ".
أما المركب الإضافي، فإن كان صدره ابنا، أو كان معرفًا بعجزه، حُذِف صدره، وألحق عجزه ياء النسب، فتقول في ابن الزبير: "زبيريّ" وفي أبى بكر: " بكرىّ".
ط – الحذف للترخيم:
والترخيم حذفُ أواخر الأسماء المفرد تخفيفاً، من خصائص المنادى لا يجوز في غيره إلا لضرورة الشعر؛ كقولنا (يا سُعَا) في ترخيم (سُعَاد)[13].
7- الحذف لأسباب قياسية تركيبة:
أي في التركيب النحوي؛ حيث تُحذف كلمة أو جملة أو أكثر، ولابد من دليل حالي أو مقالي يدل على المحذوف؛ مثل حذف المبتدأ، وحذف الخبر،،، وغير ذلك.
ومن ذلك قولنا: (لولا الله ما اهتدينا)، التقدير: (لولا الله موجود ما اهتدينا)، وقولنا: (في البيت). لمن يسأل: (أين زيد؟).
والحذف لابد له من قرينة مُصاحِبة تَدُلُّ على المحذوف، وتكون هذه القرينة حالية أو عقلية أو لفظية، وقد وضع النُّحاة مجموعة من الشروط للحذف هي:
1- وجود الدليل على المحذوف إن كان المحذوف عمدة، أما إن كان فضلة فالشرط أن لا يكون في حذفه ضرر.
2- ألا يكون المحذوف كالجزء؛ فلا يحذف الفاعل، ولا نائبه ولا ما يشبهه.
3- ألا يكون مؤكَّدًا، فلا يُحذف العائد في نحو قولك: الذي رأيته نفسَه زيد.
4- ألا يكون عوضًا عن شيء محذوف؛ فلا تحذف (ما) في أما أنت منطلقاً ولا التاء من نحو : (عِدَةٌ وزِنَةٌ).
5- ألا يكون المحذوف عاملاً ضعيفًا؛ فلا يُحذف الجار والجازم والناصب للفعل، إلا في مواضع قويت فيها الدلالة، وكثر استعمالها ولا يمكن القياس عليها.
6- ألا يؤدي الحذف إلى اختصار المختصر؛ فلا يُحذف اسم الفعل دون معموله؛ لأنه اختصار للفعل.
7- ألا يؤدي الحذف إلى تهيئة العامل للعمل وقطعه عنه؛ فلا يحذف المفعول - وهو الهاء - من ضربني وضربته زيد؛ لئلا يتسلط على زيد ثم يقطع عنه برفعه للفعل الأول.
8- ألا يؤدي الحذف إلى إعمال العامل الضعيف مع إمكان إعمال العامل القوي؛ فلا يحذف الضمير في: زيد ضربته؛ لأنه يؤدي إلى إعمال المبتدأ وإهمال الفعل مع أنه أقوى.
أما أغراض الحذف: فنقصد بها الأهداف المقصودة للناطقين عندما يحذفون، فما ذكرناه من أسباب هو العِلل الظاهرة التي يقع الحذف عند وجودها.. أما الأغراض فنعني بها الأهداف البعيدة التي يقصدها الناطق حين يجنح إلى الحذف.
وكما أن أسباب الحذف عني بذكرها وتفصيل القول فيها النحاة، نجد أن الأغراض تعرض لها البلاغيون، وفَصَّلُوا القول فيها؛ فابن هشام[14] – مثلا – يرى أن الأغراض يتناولها البيانيون والمفسرون، وأنها ليست من عمل النحاة[15]، وأغراض الحذف هي:
1- التخفيف:
كثير من الأسباب الظاهرة للحذف غرضُها التخفيف، فكثرة الاستعمال تستلزم الحذف؛ رغبةً في التخفيف؛ كالتقاء الساكنين، لصعوبة النطق بهما، وأيضًا نجد التخفيف في نزع الخافض، وحذف الهمزة، وتوالي الأمثال.
يقول سيبويه[16]: "وقولهم ليس أحد أي ليس هنا أحد، فكل ذلك حُذِف تخفيفًا واستغناءً بعلم المخاطَب بما يعني"[17].
2- الإيجاز واختصار الكلام:
كثير من أنواع الحذف ناتجة عن رغبة المتكلم في الاختصار والإيجاز؛ فعند بناء الفعل للمجهول يُحذف الفاعل، ويذكر البلاغيون أغراضًا متعددة لذلك، منها الاختصار والإيجاز، ومن أمثلة ذلك ما يقع في القصص القرآني من حذف ما تدل عليه القرائن ويدل السياق عليه، ومن ذلك قوله تعالى: {... أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ * يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا...} [يوسف: 45، 46]. فالتقدير: فأرسلوه فذهب إليه وقال له.
3- الاتساع:
وهو نوع من الحذف للإيجاز والاختصار، لكنه ينتج عنه نوع من المجاز بسبب نقل الكلمة من حكم كان لها إلى حكم ليس بحقيقة فيها، ومثال ذلك حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه كما في قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} أي: بر من اتقى.
ويسميه البعض التوسع، يرى سيبويه أن الحذف للتوسع في اللغة أكثر من أن يحصى[18].
4- التفخيم والإعظام لما فيه من الإبهام:
مثل قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73]، الجواب حُذِف؛ لأن وصف ما يجدونه لا يَتَنَاهى؛ فحُذِف تفخيمًا وإعظامًا له؛ حيث إن الكلام يضيق عن وصفه.
5- صيانة المحذوف عن الذكر في مقام معين تشريفا له:
ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ اُبْتُلِيَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ بِشَيء، فَلْيَسْتَتِرْ بِسَتْرِ اللهِ))[19]، فالفعل ابتلي أسند إلى نائب الفاعل وحذف فاعله، وهو لفظ الجلالة صيانةً له عن ذكره في ذلك المقام، الذي سمى فيه الذنوب باسم (القاذورات).
6- تحقير شأن المحذوف:
ونجد ذلك في كتب السِّيَر، عندما يؤذى عُظَماء الإسلام، يُقال أوذي فُلان؛ ومن ذلك قوله تعالى {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} فلم يذكر المبتدأ تحقيرًا لشأنهم.
7- قصد البيان بعد الإبهام:
ويرى البلاغيون أن ذلك يتحقق في فعل المشيئة إذا وقع شرطًا كما في قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَهَدَاكُم أَجْمَعِينَ}؛ فمفعول فعل المشيئة محذوف تقديره: ولو شاء الله هدايتكُم لهداكُم. وسر حذفه هو البيان بعد الإبهام؛ لأنه لما قيل لو شاء علم أن هناك شيئًا تعلقت به المشيئة لكنه مبهم، فلما جيء بجواب الشرط وضح ذلك الشيء وعلم أنه الهداية وإذن فكل من الشرط والجواب دال على المفعول غير أن الشرط دال عليه إجمالاً والجواب دال عليه تفصيلاً.
والبيان بعد الإبهام، أو التفصيل بعد الإجمال أوقع في النفس؛ لأن السامع لا يظفر بمعرفة المحذوف إلا بعد تطلع ولهفة.
8- قصد الإبهام:
لا يتعلق مراد المتكلم بتعيين المحذوف؛ فيَتَعَمَّد الحذف حتى لا ينصرف ذهن المستمع له، لأن ذكره لا يؤثر في الكلام أو الحكم، ومن ذلك قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُم}، فالمهم حدث الإحصار نفسه ولا يهم ذكر فاعله، بل إن ذكره قد يشغل المستمع عن الحدث وهو الأساس هنا، وربما يظن المستمع أن الحكم خاص به بالفاعل إذا ذكر، وقوله: {إِذَا حُيِّيتُم}، فلا يهم فاعل التحية المهم حدث التحية نفسه، وقوله: {إِذَا قِيلَ لَكُم تَفَسَّحُوا}، لا يهم من القائل وذكره يشغل القارئ وربما يظن أن الحكم خاص به.
9- الجهل بالمحذوف:
ومن ذلك قولنا: (قُتِل فُلان)، و(سرقت الدار)، عندما لا نعرف القاتل والسارق.
10- العلم الواضح بالمحذوف:
مثل قوله تعالى {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} و{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}؛ بُني الفعلان (أُعِدَّتْ) و(كُتِبَ) للمجهول للعلم بالفاعل وهو الله عز وجل، {عَالِمُ الْغَيْبِ} المبتدأ محذوف للعلم به، والتقدير: الله عالم الغيب.
وقول الشاعر:
فَإِذَا رُزِقْتَ خَلِيْقَةً مَحْمُودَةً فَقَدِ اصْطَفَاكَ مُقَسِّمُ الأَرْزَاقِ
أسند الفعل رزقت إلى نائب الفاعل؛ فالرازق هو الله عز وجل، ولا داعي لذكره؛ لأنه معوم للمستمع، ولن ينصرف الذهن إلى غيره.
11- الخوف منه أو عليه:
قد يحذف الفاعل ويُبنى الفعل للمجهول حين يَخشى المُتكلِّم أن يناله أذى من الفاعل، وحين يخشى على الفاعل من الأذى.
12- الإشعار باللهفة وأن الزمن يتقاصر عن ذكر المحذوف:
وهذا غرض لباب الإغراء والتحذير نحو قوله تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا}، والتقدير: ذروا ناقة الله والزموا سقياها.
13- رعاية الفاصلة والمحافظة على السجع:
وهو غرض لفظي؛ حيث تحذف حرف أو أكثر لمراعاة الفاصلة؛ مثل قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}، فمفعول الفعل قلى وهو ضمير المخاطب صلى الله عليه وسلم، محذوف لرعاية الفاصلة والتوافق الصوتي مع أواخر الآيات قبلها وبعدها.
ومن براعة الإعجاز البلاغي في القرآن أننا نجد الحذف هنا يحقق – إلى جانب ذلك – غرضًا معنويًّا، فالآية تنفي التوديع والقلي أي الهجر والبغض، فالله عز وجل يطمئن نبيه بعد فترة انقطاع الوحي أنه لم يهجره أو يبغضه كما زعم ذلك أعداؤه من الكفار حين حدثت تلك الفترة.
ولما كان هناك فارق دلالي بين الهجر والبغض، (إذ الهجر لا يكون إلا للحبيب أما البغض فهو للخصوم والأعداء) جاءت الآية الكريمة مراعية ذلك حيث ذكرت ضميره - صلى الله عليه وسلم - في جانب نفي الهجر (ما ودعك) ولم تذكره في جانب نفي البغض (وما قلى) إعلاءً لشأنه عليه السلام أن يذكر ضميره في جانب المقت والكره حتى لو كان هذا الجانب منفيًّا.
14- المحافظة على الوزن في الشعر:
وهو – أيضا – غرض لفظي مثل قول ضابِئ بن الحارِث البُرْجُمِيّ:
ومَنْ يَكُ أمْسَى في المَدِينةِ رَحْلُهُ فإنِّي، وقَيَّارٌ، بِها لَغَرِيبُ
أي: فإني لغريب وقيار غريب، (وقيَّار اسم لفرس الشاعر)، فحذف المسند إلى قيار حتى لا ينكسر وزن البيت، ويرى البلاغيون أن في ذلك الحذف فائدة معنوية؛ حيث إن الموقف هنا موقف شكوى وتحسر؛ فكان مناسبًا له الحذف والاختصار لا الذكر والتطويل.
لكننا نجد فائدة أخرى: فالشاعر هنا يتحسر على مقامه بالمدينة بعيدًا عن الأهل والوطن، فهو ينظر حوله فيجد الناس جميعًا هانئين بالمقام سعداء باجتماع الشمل أما هو فقد اشتدت به تباريح النوى والتهب وجدانه بالشعور بالغربة وأحس بأنه ليس ثمة من يشاركه شعوره أو يحس بمثل إحساسه سوى هذا الحيوان الأعجم (قَيَّار) الذي ابتلي بالغربة معه والمقام في غير داره، فحذف المسند (غريب) هنا للإيحاء بتوحد الإحساس والمشاركة الوجدانية التي يتخيلها الشاعر بينه وبين فرسه، فليست هنا غربة للشاعر وغربة لفرسه، ولكنها غربة واحدة عانيا مرارتها معًا فوحدت بينهما في الشعور والشكوى والألم.
وينقسم الحذف إلى نوعين رئيسين: أولهما يتصل بالصيغ، والنوع الآخر يتصل بالتراكيب.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] الصحاح في اللغة 1 / 120.
[2] لسان العرب: 9 / 40.
[3] أبو حيّان الأندلسي (654 - 745هـ، 1256 - 1344م)، محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيّان، الإمام أثير الدين الأندلسي الغرناطي، نحويّ عصره ولغويّه ومفسّره ومحدّثه ومقرؤه ومؤرخه وأديبه، ولد في حاضرة غرناطة. وأخذ القراءات عن أبي جعفر بن الطباع، والعربية عن أبي الحسن الأبذي وجماعة. وتقدم في النحو، وأقرأ في حياة شيوخه بالمغرب، وسمع الحديث بالأندلس وأفريقية والإسكندرية ومصر والحجاز من نحو خمسين وأربعمائة شيخ، من تصانيفه: "البحر المحيط" في التفسير، ومختصره "النهر"؛ و"التذييل والتكميل في شرح التسهيل"، و"ارتشاف الضَّرَب"، وتُعَدّ هذه الكتب من أجمع الكتب وأحصاها في موضوعاتها.
[4] انظر البحر المحيط: 1/ 643.
[5] الشهاب الخفاجي (977 - 1069 هـ = 1569 - 1659 م)، أحمد بن محمد بن عمر، شهاب الدين الخفاجي المصري: قاضي القضاة وصاحب التصانيف في الأدب واللغة، ولد ونشأ بمصر، ورحل إلى بلاد الروم، واتصل بالسلطان مراد العثماني فولاه قضاء سلانيك، ثم قضاء مصر، ثم عزل عنها؛ فرحل إلى الشام وحلب وعاد إلى بلاد الروم؛ فنفي إلى مصر وولي قضاء يعيش منه فاستقر إلى أن توفي، من أشهر كتبه "شفاء العليل فيما في كلام العرب من الدخيل" و "شرح درة الغواص في أوهام الخواص للحريري" و "طراز المجالس".
[6] حاشيته على تفسير البيضاوي تسمى "عناية القاضي وكفاية الراضي"، وتقع في ثمانية مجلدات.
[7] ابن مضاء القرطبي (511 - 592 هـ = 1118 - 1196 م)، أحمد بن عبد الرحمن بن محمد، ابن مضاء، ابن عمير اللخمي القرطبي، أبو العباس: عالم بالعربية، له معرفة بالطب والهندسة والحساب، وله شعر، أصله من قرى شذونة Sidona ومولده بقرطبة، ووُلي القضاء بفاس وبجاية، ثم بمراكش سنة 578 هـ، وتوفي باشبيلية.
[8] انظر الرد على النحاة:130.
[9] انظر أسرار البلاغة 379/380.
[10] عبدالقاهر الجرجاني (400 - 471هـ، 1010 - 1078م)، أبو بكر عبدالقاهر بن عبدالرحمن بن محمد الفارسي الأصل، الجرجاني الدار، وُلِدَ وتوفي في جرجان. تتلمذ على أبي الحسين بن عبدالوارث، ابن أخت أبي علي الفارسي، وكان يحكي عنه كثيرًا، لأنه لم يلق شيخًا مشهورًا في العربية غيره لعدم خروجه من جرجان في طلب العلم. ويُعد عبدالقاهر واحدًا من الذين تفخر بهم الحضارة الإسلامية في مجال الدرس اللغوي والبلاغي، إذ تقف مؤلفاته شامخة حتى اليوم أمام أحدث الدراسات اللغوية، ويُعد كتابه "دلائل الإعجاز" قمة تلك المؤلفات؛ حيث توصل فيه إلى نظريته الشهيرة التي عُرفت باسم نظرية التعليق أو نظرية النظم، التي سبق بها عصره، ومازالت تبهر الباحثين المعاصرين، وتقف ندًّا قويًا لنظريات اللغويين الغربيين في العصر الحديث.
أراد عبدالقاهر بكتابه "دلائل الإعجاز" أن يرد على من كانوا يرجعون إعجاز القرآن إلى الألفاظ، ورفض أن يكون الإعجاز راجعًا إلى المفردات أو حتى معانيها؛ أو جريانها وسهولتها وعذوبتها وعدم ثقلها على الألسنة. كما رفض أن يكون الإعجاز راجعًا إلى الاستعارات أو المجازات أو الفواصل أو الإيجاز، وإنما رد إعجاز القرآن إلى حسن النظم. ومجمل نظريته أنه لا اعتداد بمعاني الكلمات المفردة إن لم تنتظم في سياق تركيبي، وهو ما يعرف بالنحو، فهو يرى أن الدلالة المعجمية معروفة لمعظم أهل اللغة ولكن دلالة اللفظة التي تكتسبها خلال نظمها في سياق تركيبي هي التي يسعى إليها مستخدم اللغة، لاختلاف دلالة اللفظة تبعًا للتركيب النحوي الذي تنتظم فيه، والمواضع المختلفة التي تحتلها في السياقات الناتجة عن أصل سياقي واحد.
تصدر عبدالقاهر مجالس جرجان يفيد الراحلين إليه والوافدين عليه. وقصده طلاب العلم من كُلِّ صوب، ومن تلامذته المشهورين الواردين إلى العراق والمتصدرين ببغداد على بن زيد الفصيحي، وأبوزكريا التبريزي، والإمام أبوعامر الفضل بن إسماعيل التميمي الجرجاني وأبو النصر أحمد بن محمد الشجري.
انتقل إلى عبدالقاهر علم السابقين فتأثر به، وظهر ذلك جليًا في مؤلفاته مثل : "المغني والمقتصد؛ الإيجاز"؛ "التكملة"؛ "التذكرة"؛ "المفتاح"؛ "الجمل"؛ "العوامل المائة"؛ "النحو"؛ "التخليص"؛ "العمدة في التصريف"؛ "كتاب شرح الفاتحة"؛ "إعجاز القرآن الصغير"؛ "إعجاز القرآن الكبير"؛ "الرسالة الشافية"؛ "دلائل الإعجاز"، "أسرار البلاغة".
يلاحظ المشتغلون بعلم اللغة أن عبدالقاهر قد سبق في دلائل الإعجاز الكثير من الباحثين الغربيين بعدّة قرون في عديد من الأفكار؛ فقد سبق الفيلسوف الإنجليزي جون لوك في الإشارة إلى عملية الاتصال اللغوي، وسبق العالمين دي سوسير وأنطوان مييه في كثير من أصول التحليل اللغوي، وسبق العالم الألماني فنت في أصول مدرسته الرمزية، وسبق العالم الأمريكي تشومسكي في الكثير من أصول مدرسته التحويلية التوليدية.
[11] دلائل الإعجاز ج1/ص121
[12] انظر المخصص 4 / 263.
[13] انظر كتاب سيبويه 1 / 44.
[14] جمال الدين ابن هشام (708 - 761 هـ = 1309 - 1360 م)، عبد الله بن يوسف بن أحمد بن عبد الله ابن يوسف، أبو محمد، جمال الدين، ابن هشام: من أئمة العربية، مولده ووفاته بمصر. قال ابن خلدون: "ما زلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر بمصر عالم بالعربية يقال له ابن هشام أنحى من سيبويه".
من تصانيفه: "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" و "عمدة الطالب في تحقيق تصريف ابن الحاجب" مجلدان، و "رفع الخصاصة عن قراء الخلاصة" أربع مجلدات، و "الجامع الصغير" نحو، و " الجامع الكبير" نحو، و "شذور الذهب" و "قطر الندى" و "التذكرة" خمسة عشر جزءًا، و "التحصيل والتفصيل لكتاب التذييل" كبير، و "أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك" و "نزهة الطرف في علم الصرف" و "موقد الاذهان" في الألغاز النحوية.
[15] انظر مغني اللبيب 2/156- 170.
[16] سيبويه (148 - 180 هـ = 765 - 796 م)، عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي بالولاء، أبو بشر، الملقب بـ (سيبويه): إمام النحاة، وأول من بسط علم النحو، ولد في إحدى قرى شيراز، وقدم البصرة، فلزم الخليل بن أحمد ففاقه، وصنف كتابه المسمى " كتاب سيبويه" في النحو، لم يصنع قبله ولا بعده مثله، ورحل إلى بغداد، فناظر الكسائي، وأجازه الرشيد بعشرة آلاف درهم، وعاد إلى الأهواز فتوفي بها، وقيل: وفاته وقبره بشيراز، وكانت في لسانه حبسة، توفي شابًّا. وفي مكان وفاته والسنة التي مات بها خلاف.
[17] انظر الكتاب ج2/ص346.
[18] انظر الكتاب ج1/ ص592.
[19] رواه الحاكم والبيهقي.
________________________________________
مساهمة من الاخت سهام عبد الكبير
الخميس، 7 يناير 2010
التنازع في النحو العربي
ظاهرة التنازع من الأبواب الخاصة في النحو العربي
وبين يدي دراسة منقولة تعالج هذه الظاهرة بتأمل ، أثرت أن أضعها بين أيديكم .." ظاهرة التنازع، فيعرفها السيوطي بقوله: (إذا تعلق عاملان) فأكثر كثلاثة وأربعة (من الفعل وشبهه) كالوصف واسم الفعل اتحد النوع أو اختلف بخلاف الحروف كإن وأخواتها (باسم) بأن طلبا فيه رفعاً أو نصباً أو جراً بحرف أو أحدهما رفع والآخر خلافه (عمل فيه أحدهما) السابق أو الثاني باتفاق الفريقين(1)
فالتنازع هو توجه عاملين أو أكثر إلى معمول يطلبه كل منهما من حيث المعنى، فيعمل فيه الثاني لقربه حسب مذهب أهل البصرة، ويعمل الأول في ضميره، أو يعمل الأول في الاسم لسبقه حسب مذهب أهل الكوفة ويعمل الثاني في ضميره.
ونلاحظ هنا قانونين يلعبان دوراً كبيراً في التراث النحوي عامة وفي هذا الباب خاصة، والقانون الأول هو قانون السبق؛ فالأسبق له الأولوية في الحكم والعمل، والقانون الثاني قانون الجوار، فالتجاور له اعتباره الكبير في أبواب نحونا العربي، ولعلنا نلمح أثراً كبيراً للقانونين في مباحث الفقه أيضاً، ولا يخفى علينا ما بين العلمين من علاقة وثيقة وأثر وتأثر.
وأركان التنازع ومصطلحاته هي المتنازع والمتنازع فيه، ويسمي النحاة هذا الباب باب الإعمال.
فالعوامل الطالبة تسمى العوامل المتنازعة، ويسمى المعمول (المتنازع فيه) و (المتنازع) وهناك صور كثيرة للمتنازع نذكر منها هذه الصور على سبيل المثال:
1. فعلان متصرفان.
2. فعل متصرف + فعل جامد.
3. وصفان مشتقان.
4. فعلان من باب ظن.
5. فعلان من باب أعطى.
6. فعلان من باب أعلم.
7. وأخيراً تنازع حرفين.
وحول الشروط الخاصة بالعوامل المتنازعة منها أن يكون العامل فعلاً أو شبهه كما في قول الشاعر:
لقد علمت أولي المغيرة أنني لقيت فلم أنكل عن الضرب مسمعا
حيث تنازع كل من (لقيت)، و(الضرب) مسمعاً.
وقد ذهب جمهور النحاة إلى امتناع التنازع بين الحرفين أو بين الحرف وغيره، لأن الإعمال قد يؤدي إلى الإضمار ولا يجوز الإضمار في الحروف(2) وقد أجازه بعضهم، كالفارسي وابن العلج، ومنه قوله تعالى "فإن لم تفعلوا"(3)حيث تنازع "أن" و "لم" الفعل بعدهما.(4)
وقد أشار المجمع إلى ورود التنازع في الحرف وذلك في التعبيرات الحديثة كتنازع لم ولن في قولهم "أنَ صورتها لم ولن تغيب عني". وتنازع لا ولن في قولهم "إن موقفك لا ولن يغير رأيي"، وأجاز المجمع التعبيرين، واقترح إدخالهما في باب التنازع مع الأخذ برأي البصريين في إعمال الثاني وتطبيقه على الحروف على سبيل التوسعة.(5) ويلاحظ في كلا التعبيرين وجود الرابط بين العاملين وهو العطف بالواو، ولكن وردت أمثلة لتنازع الحروف وليس بينها رابط كما في قول امرئ القيس:
فقالت يمين الله ما لك حيلة وما إن أرى عنك الغواية تنجلي(6)ومن شروط العوامل المتنازعة أن يكون العامل متصرفاً كما في قوله تعالى "آتوني أفرغ عليه قطرا"،(7) وكذلك يشترط اقتضاء العاملين للمعمول وتقدم العوامل على المعمول وضرورة الربط بين العاملين، ووسائل ذلك الربط كثيرة منها العطف، وأن يكون الثاني جواب العامل الأول كما في قوله تعالى "يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة"،(8) فالفعل الثاني جواب للأول، وغير ذلك من وسائل الربط بين العوامل المتنازعة، ومن الشروط أيضاً وجود العوامل المتنازعة، ولا يجوز حذف أحد العوامل.
أما عن الشروط الخاصة بالمتنازع فيه فيمكن أن نوجزها في وجوب تأخره عن العوامل، وألا يكون ضميراً فلا يجوز "علي قام وقعد هو" وألا يكون واقعاً بعد إلا، وعلى هذا فليس من التنازع قول الشاعر:
ما جاد رأياً ولا أجدى محاولة إلا امرؤ لم يضع دنيا ولا ديناً
والغالب في الإعمال هو "إعمال الثاني" وقد ورد ذلك في الشعر(9) وكذلك في القرآن الكريم كما في قوله تعالى "هاؤم اقرءوا كتابيه". وإذا نظرنا لهاتين الظاهرتين، في محاولة لتفسيرهما، فإننا قد نجد أن السبب الأول في ظهور ظاهرة الاشتغال هو فكرة العامل وما أدت إليه من أحكام، فأي ظاهرة من ظواهر الإعراب عند النحاة أثر ولابد لها من مؤثر وموجد لها وعامل قد عمل فيها، وقد يكون هذا العامل ظاهراً أو غير ظاهر، وقد وجد النحاة بعض الظواهر اللغوية كظاهرة نصب الاسم المتقدم على الفعل ولا عامل هناك مثل "زيداً أكرمته"، ولا يصح عند النحاة أن ينصب الفعل الاسم وضميره في وقت واحد، فراح النحاة يبحثون عن مخرج حتى تتوافق الأمثلة أو الواقع اللغوي مع قواعدهم النحوية، فذهب جمهورهم إلى أن الاسم المتقدم منصوب بفعل محذوف واجب الحذف لدلالة الفعل الموجود عليه.
وقد أرجعت فكرة العامل في النحو عند الكثيرين إلى تأثر النحاة بأصول الفقه فقد ذهب الفقهاء إلى القول بالعامل والبحث عن العلة، كما تأثر النحاة بعلم الكلام وعلمائه من قولهم بأن لكل حادث محدثاً ولكل موجود موجداً، وأنه لا يمكن أن يكون هناك مخلوق بغير خالق، ولم ينتبه النحاة إلى الفرق بين طبيعة كل من العلمين حيث يعتمد النحاة على شواهد من كلام الناس في حين يقوم الفقه على النص القرآني(10)
وإذا كان باب الاشتغال يقوم في جوهره عند النحاة على عدم جواز إعمال الفعل في الاسم الظاهر وضميره معاً فإن الباب يواجه اعتراضاً في أصله وذلك عند كثير من المحدثين الرافضين لفكرة العامل، وذلك انطلاقاً من أن العوامل في النحو تختلف عن مثيلاتها من العوامل الأخرى فهي ليست طبيعية وإنما هي من صنع المتكلم ويمكن له أن يغفلها ولكنه يكون قد خالف القواعد النحوية، فقاعدة النحاة أن لكل منصوب ناصباً هي التي حملتهم على ذلك التقدير غير اللازم(11)
وقد كان قرار مجمع اللغة العربية بالقاهرة عند مناقشته باب الاشتغال أنه "يجوز رفع المشغول عنه ونصبه ولا داعي لذكر حالات الوجوب أو الترجيح، وتردَ أمثلة هذه الحالات إلى أبوابها من كتب النحو"(12)
وهكذا يمكن أن نرى النحاة قد لجأوا إلى تقدير محذوف اتقاء للتصادم بين هذه الأمثلة وقواعدهم من ناحية، ومنعاً للتعارض بينها وبين ما يعتنقه النحاة من وجهات عقدية.
أما السبب في ظهور قضية التنازع فربما يعود إلى من أوضعه النحاة، وهو عدم جواز اجتماع عاملين على معمول واحد، وذلك مثل "قام وقعد علي" فلا يجوز أن يكون "علي" فاعلاً لكل من "قام" و"قعد" معاُ.
وقد تطورت المسألة من هذه البداية البسيطة إلى التعقيد والتركيب فأخذوا يتصورون ويفترضون أشكالاً مختلفة ومتعددة لما يمكن أن تأتي عليه ظاهرة التنازع، وبالغوا في ذلك مبالغة خرجت بالباب إلى لون متعسف من الافتراضات غير الواقعية، ولم يكتفوا بما ورد من أنماط في الواقع اللغوي بل أخذوا في اختراع أنماط من مخيلتهم، فمن الصور المرفوضة في باب التنازع صور الأفعال المتعدية إلى اثنين كظن، والأفعال المتعدية إلى ثلاث كأعلم حيث لم يرد فيها استعمال عن العرب. ولعل المسألة ترتبط أيضاً بأمور عقدية وفقهية مؤداها أنه لابد من موجد واحد للظاهرة حتى لا يجتمع مؤثران على أثر واحد(13)وتتعارض صورة مثل "قام وقعد علي"مع هذه القاعدة، وذلك لاجتماع الفعلين على فاعل واحد ومن هنا لجأ النحاة إلى وضع باب التنازع وما يتصل به من قواعد الإضمار في أحد الفعلين حتى ينسجم النمط مع القاعدة، ويظل للمعمول عامل واحد يعمل فيه.
ويرى د. شوقي ضيف أن أغلب صور هذا الباب من افتراضات النحاة ويقترح عدم الإبقاء عليه في درس النحو، والاكتفاء بالصيغ الواردة في الاستعمال، فيعمل الفعل الثاني ويحذف من الفعل الأول لدلالة الثاني عليه ولدلالة السياق ، وقد ذهب مجمع اللغة العربية بالقاهرة إلى حذف باب التنازع والاكتفاء بالصور التي توارد بها الاستعمال في الفصحى.(14) وقد كان المفروض في النحاة أن يقتصروا على رصد ما هو واقع وحقيقي، ولا يفترضون أشكالاً للعبارات من غير أن يكون لها أساس من الاستعمال مما دعاهم إلى التقدير والتأويل.
وبعد أن استعرضنا آراء النحاة في بابي الاشتغال والتنازع نستطيع أن نرصد القواعد التي أقام عليها النحاة هذين البابين والتي أدت في معظمها إلى ذلك التعقيد فيهما:
1. قضية العامل وأثرها وقد أشرنا إليها سابقاً وما ترتب على القول بها من افتراض صور ليس لها نصيب من الواقع.
2. ضرورة الحفاظ على الشكل النمطي للجملة، ومن ثم وجوب الإضمار في باب الاشتغال.
3. اختصاص بعض الأدوات بالدخول على الأفعال، وما يترتب على ذلك عندما تدخل هذه الأدوات على الأسماء، وغلبة دخول بعض الأدوات الأخرى على الفعل، وإضافة بعض الأحكام الإعرابية الجديدة نتيجة دخول هذه الأدوات على الأسماء.
4. إجراء القياس على كل ظاهرة، فيجرون أحكام نصب المشغول عنه على الاسم المرفوع، وإجراء أحكام التنازع في المتعدي إلى واحد، على المتعدي إلى اثنين وكذلك المتعدي إلى ثلاثة.
5. تجنب الإضمار قبل الذكر، ولذلك ذهب جمهورهم إلى ضرورة إعمال الثاني في باب التنازع.
6. تجنب حذف الفاعل، ولذلك ذهبوا إلى ضرورة إضمار المرفوع في العامل الأول عند إهماله.
7. جواز الاستغناء الفضلة وإهمالها، ولذلك ذهبوا إلى عدم وجوب إضمار المنصوب والمجرور في العامل الأول عند إهماله.
8. انتباه النحاة إلى التفرقة بين ما أطلقوا علية (تفسير المعنى) و (تفسير الإعراب)، وإدراكهم أن تفسير الإعراب ربما يأتي مخالفا للمعنى وربما مناقضا له، ولكن القاعدة عندهم أولى بالاتباع.
ونستطيع أيضاً أن نرصد أهم الانتقادات التي أجريت لآراء النحاة في البابين، من أجل الاسترشاد بها في مراجعة البابين وتنقيحها، وهي على النحو التالي:
1. تطبيق النحاة لآراء الفقهاء في علم أصول الفقه دون الوعي بالفرق بينهما.
2. عكس النحاة الوضع الطبيعي للأشياء فالمفروض أن يرصد الواقع اللغوي ثم تستخرج منه القواعد، فتكون معبرّة عنه وعاكسه له، ولكن النحاة وضعوا قواعدهم، ثم عرضوا عليها الواقع اللغوي وما اختلف معها أوّلوه.
3. عدم احتياج صور الاشتغال إلى تقدير فعل محذوف لأن الكلام مفهوم بدون هذا التقدير، والدليل على ذلك قدرة الفعل الموجود على تفسير ذلك المحذوف المجهول، وبما أن الفعل يحذف في الاشتغال عند وجود قرينة عليه فلا تبدو هناك حاجة لتقدير هذا المحذوف.
4. عدم احتياج صور التنازع إلى الإضمار، لأن المعنى مفهوم من السياق، كما أن الإضمار يترتب عليه وجود مجموعة من الصور غير الواقعية، ويؤدي إلى تعقيد في الضمائر وما تعود إليه.
5. تفسير ظاهرة حذف الفعل في الاشتغال وحذف الفاعل أو المفعول في التنازع بأنه ظاهرة طبيعية في اللغة تتمثل في ميلها إلى الإيجاز والاختصار.
6. الرد على اختصاص الأدوات بوجود ما يعارضه من أمثلة واقعية وقد التفت بعض النحاة إلى ذلك فذهبوا إلى أن اشتراط وجود الجملة الفعلية بعد أدوات التخصيص يعد ضرباً من الوهم.
7. التناول الذهني للظواهر، والاعتماد على القسمة العقلية المنطقية.
8. تدخل الناحية العقدية وأثرها على محاولة النحاة تأويل النصوص- بخاصة القرآنية- بما يتفق مع قواعدهم، في حين أن المفروض هو عكس ذلك تماما.
9. وجود المثال الطبيعي للتنازع وكذلك للاشتغال، ولكن النحاة أهدروا هذه الاستعمالات الموجودة وذهبوا إلى تأويلها وتخريجها.
10. عدم ترجيع أعمال أحد العاملين على الآخرين في التنازع والدعوة إلى أعمال الاثنين معا.
11. عدم تطبيق مبدأ القياس، والاكتفاء بما ورد وسمع، وذلك لما ترتب على هذا القياس من ألوان التعسف المختلفة.
12. تأثر النحاة بما في المنطق والفلسفة من مقولات مثل القول بما هو موجود بالقوة وما هو موجود بالفعل، ومن ثم القول بتقدير عامل ومحله، وهو محذوف.
13. تمسك النحاة بقواعدهم تمسكاً شديداً إلى الدرجة التي تجعلهم يرفضون المساواة بين بعض المباحث النحوية كبحث الاشتغال وبحث التوكيد أو البدل في حين أن الأبواب متشابهة.
14. كثرة الخلافات بين النحاة في البابين ووقوعهم في التناقض فيحرمون ما يحللون حينا، ويحللون ما يحرمون حيناً آخر.
15. إهمال الاستعمالات الواقعية بل رفضها أحياناً لمجرد تعارضها مع القواعد.
وأخيراً غياب معرفة التطورات التي حدثت في استعمال الظواهر النحوية المختلفة وذلك لوقوف النحاة بالاستشهاد عند زمن معين.___________________
.1السيوطي، المجمع، ج5، ص137.
2 ابن عصفور، شرح الجمل، ج2، ص641.
3 سورة البقرة، الآية 24.
4الأزهري، شرح التصريح، ج1، ص317.
5 مجلة المجمع، كتاب الأصول، ج3، ص156.
6الأنباري، شرح القصائد السبع، ص53. والتبريزي، شرح القصائد العشر، ص37.
7 سورة الكهف، الآية 96.
8سورة النساء، الآية 176.
9 سورة الحاقة، الآية 19.
10عباس حسن، اللغة والنحو، ص ص186، 188.
11ابن مضاء، الرد على النحاة، ص79.
12مجلة المجمع، كتاب الأصول، ج3، ص243.
13 عباس حسن، اللغة والنحو، ص ص186، 189.
14مجلة المجمع، كتاب الأصول، ج3، ص ص239، 241، 243.
__________________
شبكة ضفاف لعلوم اللغة العربية
أرسلت المادة من قبل الأخت سهام عبد الكبير
وبين يدي دراسة منقولة تعالج هذه الظاهرة بتأمل ، أثرت أن أضعها بين أيديكم .." ظاهرة التنازع، فيعرفها السيوطي بقوله: (إذا تعلق عاملان) فأكثر كثلاثة وأربعة (من الفعل وشبهه) كالوصف واسم الفعل اتحد النوع أو اختلف بخلاف الحروف كإن وأخواتها (باسم) بأن طلبا فيه رفعاً أو نصباً أو جراً بحرف أو أحدهما رفع والآخر خلافه (عمل فيه أحدهما) السابق أو الثاني باتفاق الفريقين(1)
فالتنازع هو توجه عاملين أو أكثر إلى معمول يطلبه كل منهما من حيث المعنى، فيعمل فيه الثاني لقربه حسب مذهب أهل البصرة، ويعمل الأول في ضميره، أو يعمل الأول في الاسم لسبقه حسب مذهب أهل الكوفة ويعمل الثاني في ضميره.
ونلاحظ هنا قانونين يلعبان دوراً كبيراً في التراث النحوي عامة وفي هذا الباب خاصة، والقانون الأول هو قانون السبق؛ فالأسبق له الأولوية في الحكم والعمل، والقانون الثاني قانون الجوار، فالتجاور له اعتباره الكبير في أبواب نحونا العربي، ولعلنا نلمح أثراً كبيراً للقانونين في مباحث الفقه أيضاً، ولا يخفى علينا ما بين العلمين من علاقة وثيقة وأثر وتأثر.
وأركان التنازع ومصطلحاته هي المتنازع والمتنازع فيه، ويسمي النحاة هذا الباب باب الإعمال.
فالعوامل الطالبة تسمى العوامل المتنازعة، ويسمى المعمول (المتنازع فيه) و (المتنازع) وهناك صور كثيرة للمتنازع نذكر منها هذه الصور على سبيل المثال:
1. فعلان متصرفان.
2. فعل متصرف + فعل جامد.
3. وصفان مشتقان.
4. فعلان من باب ظن.
5. فعلان من باب أعطى.
6. فعلان من باب أعلم.
7. وأخيراً تنازع حرفين.
وحول الشروط الخاصة بالعوامل المتنازعة منها أن يكون العامل فعلاً أو شبهه كما في قول الشاعر:
لقد علمت أولي المغيرة أنني لقيت فلم أنكل عن الضرب مسمعا
حيث تنازع كل من (لقيت)، و(الضرب) مسمعاً.
وقد ذهب جمهور النحاة إلى امتناع التنازع بين الحرفين أو بين الحرف وغيره، لأن الإعمال قد يؤدي إلى الإضمار ولا يجوز الإضمار في الحروف(2) وقد أجازه بعضهم، كالفارسي وابن العلج، ومنه قوله تعالى "فإن لم تفعلوا"(3)حيث تنازع "أن" و "لم" الفعل بعدهما.(4)
وقد أشار المجمع إلى ورود التنازع في الحرف وذلك في التعبيرات الحديثة كتنازع لم ولن في قولهم "أنَ صورتها لم ولن تغيب عني". وتنازع لا ولن في قولهم "إن موقفك لا ولن يغير رأيي"، وأجاز المجمع التعبيرين، واقترح إدخالهما في باب التنازع مع الأخذ برأي البصريين في إعمال الثاني وتطبيقه على الحروف على سبيل التوسعة.(5) ويلاحظ في كلا التعبيرين وجود الرابط بين العاملين وهو العطف بالواو، ولكن وردت أمثلة لتنازع الحروف وليس بينها رابط كما في قول امرئ القيس:
فقالت يمين الله ما لك حيلة وما إن أرى عنك الغواية تنجلي(6)ومن شروط العوامل المتنازعة أن يكون العامل متصرفاً كما في قوله تعالى "آتوني أفرغ عليه قطرا"،(7) وكذلك يشترط اقتضاء العاملين للمعمول وتقدم العوامل على المعمول وضرورة الربط بين العاملين، ووسائل ذلك الربط كثيرة منها العطف، وأن يكون الثاني جواب العامل الأول كما في قوله تعالى "يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة"،(8) فالفعل الثاني جواب للأول، وغير ذلك من وسائل الربط بين العوامل المتنازعة، ومن الشروط أيضاً وجود العوامل المتنازعة، ولا يجوز حذف أحد العوامل.
أما عن الشروط الخاصة بالمتنازع فيه فيمكن أن نوجزها في وجوب تأخره عن العوامل، وألا يكون ضميراً فلا يجوز "علي قام وقعد هو" وألا يكون واقعاً بعد إلا، وعلى هذا فليس من التنازع قول الشاعر:
ما جاد رأياً ولا أجدى محاولة إلا امرؤ لم يضع دنيا ولا ديناً
والغالب في الإعمال هو "إعمال الثاني" وقد ورد ذلك في الشعر(9) وكذلك في القرآن الكريم كما في قوله تعالى "هاؤم اقرءوا كتابيه". وإذا نظرنا لهاتين الظاهرتين، في محاولة لتفسيرهما، فإننا قد نجد أن السبب الأول في ظهور ظاهرة الاشتغال هو فكرة العامل وما أدت إليه من أحكام، فأي ظاهرة من ظواهر الإعراب عند النحاة أثر ولابد لها من مؤثر وموجد لها وعامل قد عمل فيها، وقد يكون هذا العامل ظاهراً أو غير ظاهر، وقد وجد النحاة بعض الظواهر اللغوية كظاهرة نصب الاسم المتقدم على الفعل ولا عامل هناك مثل "زيداً أكرمته"، ولا يصح عند النحاة أن ينصب الفعل الاسم وضميره في وقت واحد، فراح النحاة يبحثون عن مخرج حتى تتوافق الأمثلة أو الواقع اللغوي مع قواعدهم النحوية، فذهب جمهورهم إلى أن الاسم المتقدم منصوب بفعل محذوف واجب الحذف لدلالة الفعل الموجود عليه.
وقد أرجعت فكرة العامل في النحو عند الكثيرين إلى تأثر النحاة بأصول الفقه فقد ذهب الفقهاء إلى القول بالعامل والبحث عن العلة، كما تأثر النحاة بعلم الكلام وعلمائه من قولهم بأن لكل حادث محدثاً ولكل موجود موجداً، وأنه لا يمكن أن يكون هناك مخلوق بغير خالق، ولم ينتبه النحاة إلى الفرق بين طبيعة كل من العلمين حيث يعتمد النحاة على شواهد من كلام الناس في حين يقوم الفقه على النص القرآني(10)
وإذا كان باب الاشتغال يقوم في جوهره عند النحاة على عدم جواز إعمال الفعل في الاسم الظاهر وضميره معاً فإن الباب يواجه اعتراضاً في أصله وذلك عند كثير من المحدثين الرافضين لفكرة العامل، وذلك انطلاقاً من أن العوامل في النحو تختلف عن مثيلاتها من العوامل الأخرى فهي ليست طبيعية وإنما هي من صنع المتكلم ويمكن له أن يغفلها ولكنه يكون قد خالف القواعد النحوية، فقاعدة النحاة أن لكل منصوب ناصباً هي التي حملتهم على ذلك التقدير غير اللازم(11)
وقد كان قرار مجمع اللغة العربية بالقاهرة عند مناقشته باب الاشتغال أنه "يجوز رفع المشغول عنه ونصبه ولا داعي لذكر حالات الوجوب أو الترجيح، وتردَ أمثلة هذه الحالات إلى أبوابها من كتب النحو"(12)
وهكذا يمكن أن نرى النحاة قد لجأوا إلى تقدير محذوف اتقاء للتصادم بين هذه الأمثلة وقواعدهم من ناحية، ومنعاً للتعارض بينها وبين ما يعتنقه النحاة من وجهات عقدية.
أما السبب في ظهور قضية التنازع فربما يعود إلى من أوضعه النحاة، وهو عدم جواز اجتماع عاملين على معمول واحد، وذلك مثل "قام وقعد علي" فلا يجوز أن يكون "علي" فاعلاً لكل من "قام" و"قعد" معاُ.
وقد تطورت المسألة من هذه البداية البسيطة إلى التعقيد والتركيب فأخذوا يتصورون ويفترضون أشكالاً مختلفة ومتعددة لما يمكن أن تأتي عليه ظاهرة التنازع، وبالغوا في ذلك مبالغة خرجت بالباب إلى لون متعسف من الافتراضات غير الواقعية، ولم يكتفوا بما ورد من أنماط في الواقع اللغوي بل أخذوا في اختراع أنماط من مخيلتهم، فمن الصور المرفوضة في باب التنازع صور الأفعال المتعدية إلى اثنين كظن، والأفعال المتعدية إلى ثلاث كأعلم حيث لم يرد فيها استعمال عن العرب. ولعل المسألة ترتبط أيضاً بأمور عقدية وفقهية مؤداها أنه لابد من موجد واحد للظاهرة حتى لا يجتمع مؤثران على أثر واحد(13)وتتعارض صورة مثل "قام وقعد علي"مع هذه القاعدة، وذلك لاجتماع الفعلين على فاعل واحد ومن هنا لجأ النحاة إلى وضع باب التنازع وما يتصل به من قواعد الإضمار في أحد الفعلين حتى ينسجم النمط مع القاعدة، ويظل للمعمول عامل واحد يعمل فيه.
ويرى د. شوقي ضيف أن أغلب صور هذا الباب من افتراضات النحاة ويقترح عدم الإبقاء عليه في درس النحو، والاكتفاء بالصيغ الواردة في الاستعمال، فيعمل الفعل الثاني ويحذف من الفعل الأول لدلالة الثاني عليه ولدلالة السياق ، وقد ذهب مجمع اللغة العربية بالقاهرة إلى حذف باب التنازع والاكتفاء بالصور التي توارد بها الاستعمال في الفصحى.(14) وقد كان المفروض في النحاة أن يقتصروا على رصد ما هو واقع وحقيقي، ولا يفترضون أشكالاً للعبارات من غير أن يكون لها أساس من الاستعمال مما دعاهم إلى التقدير والتأويل.
وبعد أن استعرضنا آراء النحاة في بابي الاشتغال والتنازع نستطيع أن نرصد القواعد التي أقام عليها النحاة هذين البابين والتي أدت في معظمها إلى ذلك التعقيد فيهما:
1. قضية العامل وأثرها وقد أشرنا إليها سابقاً وما ترتب على القول بها من افتراض صور ليس لها نصيب من الواقع.
2. ضرورة الحفاظ على الشكل النمطي للجملة، ومن ثم وجوب الإضمار في باب الاشتغال.
3. اختصاص بعض الأدوات بالدخول على الأفعال، وما يترتب على ذلك عندما تدخل هذه الأدوات على الأسماء، وغلبة دخول بعض الأدوات الأخرى على الفعل، وإضافة بعض الأحكام الإعرابية الجديدة نتيجة دخول هذه الأدوات على الأسماء.
4. إجراء القياس على كل ظاهرة، فيجرون أحكام نصب المشغول عنه على الاسم المرفوع، وإجراء أحكام التنازع في المتعدي إلى واحد، على المتعدي إلى اثنين وكذلك المتعدي إلى ثلاثة.
5. تجنب الإضمار قبل الذكر، ولذلك ذهب جمهورهم إلى ضرورة إعمال الثاني في باب التنازع.
6. تجنب حذف الفاعل، ولذلك ذهبوا إلى ضرورة إضمار المرفوع في العامل الأول عند إهماله.
7. جواز الاستغناء الفضلة وإهمالها، ولذلك ذهبوا إلى عدم وجوب إضمار المنصوب والمجرور في العامل الأول عند إهماله.
8. انتباه النحاة إلى التفرقة بين ما أطلقوا علية (تفسير المعنى) و (تفسير الإعراب)، وإدراكهم أن تفسير الإعراب ربما يأتي مخالفا للمعنى وربما مناقضا له، ولكن القاعدة عندهم أولى بالاتباع.
ونستطيع أيضاً أن نرصد أهم الانتقادات التي أجريت لآراء النحاة في البابين، من أجل الاسترشاد بها في مراجعة البابين وتنقيحها، وهي على النحو التالي:
1. تطبيق النحاة لآراء الفقهاء في علم أصول الفقه دون الوعي بالفرق بينهما.
2. عكس النحاة الوضع الطبيعي للأشياء فالمفروض أن يرصد الواقع اللغوي ثم تستخرج منه القواعد، فتكون معبرّة عنه وعاكسه له، ولكن النحاة وضعوا قواعدهم، ثم عرضوا عليها الواقع اللغوي وما اختلف معها أوّلوه.
3. عدم احتياج صور الاشتغال إلى تقدير فعل محذوف لأن الكلام مفهوم بدون هذا التقدير، والدليل على ذلك قدرة الفعل الموجود على تفسير ذلك المحذوف المجهول، وبما أن الفعل يحذف في الاشتغال عند وجود قرينة عليه فلا تبدو هناك حاجة لتقدير هذا المحذوف.
4. عدم احتياج صور التنازع إلى الإضمار، لأن المعنى مفهوم من السياق، كما أن الإضمار يترتب عليه وجود مجموعة من الصور غير الواقعية، ويؤدي إلى تعقيد في الضمائر وما تعود إليه.
5. تفسير ظاهرة حذف الفعل في الاشتغال وحذف الفاعل أو المفعول في التنازع بأنه ظاهرة طبيعية في اللغة تتمثل في ميلها إلى الإيجاز والاختصار.
6. الرد على اختصاص الأدوات بوجود ما يعارضه من أمثلة واقعية وقد التفت بعض النحاة إلى ذلك فذهبوا إلى أن اشتراط وجود الجملة الفعلية بعد أدوات التخصيص يعد ضرباً من الوهم.
7. التناول الذهني للظواهر، والاعتماد على القسمة العقلية المنطقية.
8. تدخل الناحية العقدية وأثرها على محاولة النحاة تأويل النصوص- بخاصة القرآنية- بما يتفق مع قواعدهم، في حين أن المفروض هو عكس ذلك تماما.
9. وجود المثال الطبيعي للتنازع وكذلك للاشتغال، ولكن النحاة أهدروا هذه الاستعمالات الموجودة وذهبوا إلى تأويلها وتخريجها.
10. عدم ترجيع أعمال أحد العاملين على الآخرين في التنازع والدعوة إلى أعمال الاثنين معا.
11. عدم تطبيق مبدأ القياس، والاكتفاء بما ورد وسمع، وذلك لما ترتب على هذا القياس من ألوان التعسف المختلفة.
12. تأثر النحاة بما في المنطق والفلسفة من مقولات مثل القول بما هو موجود بالقوة وما هو موجود بالفعل، ومن ثم القول بتقدير عامل ومحله، وهو محذوف.
13. تمسك النحاة بقواعدهم تمسكاً شديداً إلى الدرجة التي تجعلهم يرفضون المساواة بين بعض المباحث النحوية كبحث الاشتغال وبحث التوكيد أو البدل في حين أن الأبواب متشابهة.
14. كثرة الخلافات بين النحاة في البابين ووقوعهم في التناقض فيحرمون ما يحللون حينا، ويحللون ما يحرمون حيناً آخر.
15. إهمال الاستعمالات الواقعية بل رفضها أحياناً لمجرد تعارضها مع القواعد.
وأخيراً غياب معرفة التطورات التي حدثت في استعمال الظواهر النحوية المختلفة وذلك لوقوف النحاة بالاستشهاد عند زمن معين.___________________
.1السيوطي، المجمع، ج5، ص137.
2 ابن عصفور، شرح الجمل، ج2، ص641.
3 سورة البقرة، الآية 24.
4الأزهري، شرح التصريح، ج1، ص317.
5 مجلة المجمع، كتاب الأصول، ج3، ص156.
6الأنباري، شرح القصائد السبع، ص53. والتبريزي، شرح القصائد العشر، ص37.
7 سورة الكهف، الآية 96.
8سورة النساء، الآية 176.
9 سورة الحاقة، الآية 19.
10عباس حسن، اللغة والنحو، ص ص186، 188.
11ابن مضاء، الرد على النحاة، ص79.
12مجلة المجمع، كتاب الأصول، ج3، ص243.
13 عباس حسن، اللغة والنحو، ص ص186، 189.
14مجلة المجمع، كتاب الأصول، ج3، ص ص239، 241، 243.
__________________
شبكة ضفاف لعلوم اللغة العربية
أرسلت المادة من قبل الأخت سهام عبد الكبير
الأربعاء، 6 يناير 2010
منهجية اختيار مواضيع الرسائل الجامعية *
منهجية اختيار مواضيع الرسائل الجامعية *
كتب
د.محمد موسى بابا عمي **
على من تقع مسؤولية إختيار الموضوع؟ كثيرا مايتردد هذا السؤال في الأوساط الأكاديمية، فتنقسم الأصوات بين من يرجع المسؤولية إلى الباحث والبعض الآخر إلى المشرف، وهناك من يعتبر الجامعة المخول الوحيد باختيار الموضوع، وهناك من يردها إلى جهات أخرى…
وفي نظري أن إختيار إشكالية للبحث هو بمثابة “الخطبة”، فالمسؤول عنها هو “الخاطب” أي “الباحث” لكن على الأستاذ المشرف أن يأخد بيده ويوجهه الوجهة الصحيحة، ويرشده إلى الظروف المحيطة بموضوعه، فقد يكون الموضوع المطروق موضوعا قتل بحثا ودراسة، وقد يكون موضوعا لا يستحق الجهد المبذول في سبيله.
ولعل من أبرز الأخطاء التي تجني فيها الجامعة على الطلبة والباحثين حين تقوم بتعليق جملة من العناوين التي تشغل مسيرة المشرف العلمية، ويفرض على الطلبة أن يختاروا عنوانا من بينها، هذا الإجراء يعتبر من معيقات البحث العلمي وهو من ألأسباب التي تجعبل الطالب نسخة من مشرفه ولا تضيف شيئا للمعرفة الإنسانية .
جدلية إختيار الموضوع والمشرف:
بالرجوع إلى واقع البحث العلمي في الجامعات الجزائرية خصوصا، وفي الجامعات العالمية بالعموم، نميز أربع حالات من العلاقة بين موضوع البحث والمشرف:
*توفر المشرف والموضوع معا: هذه هي الحالة المثلى التي يسعى كل طالب لبلوغها، وعلى الطالب أن يتثبت أن الموضوع يلائم المشرف ويثير إهتمامه، وأن قبوله لهذا الموضوزع ليس من قبيل المحاباة أو الضرورة أو حتى عن جهله بالموضوع أو مشرف لا يرد أحدا أو لأي اعتبارات أخرى خارجة عن المقاييس العلمية للاشراف والمشرف الجيد هو الذي يلتزم بالتوجيه ، ويتبنى الموضوع بحماس واهتمام ويتحمل مسؤولية النجاح والاخفاق.
*توفر المشرف وانعدام الموضوع : والغالب في هذه الحالة أن المشرف قد سبق أنم تعامل مع الطالب، وهو يقدر اجتهاده وملكاته لذا يثق فيه كل الثقة ويبدي استعداده للإشراف عليه حتى وإن لم يستقر بعد على موضوع معين.
في مثل هذه الحال على الطالب أن يعقد موعدا مع مشرفه ، ويتداولا أطراف المواضيع للإستقرار على “مجال ومحور على الأقل” ثم يجتهد الطالب في تفكيك موضوعه إلى أن يصوغ الإشكالية اللائقة.
*انعدام المشرف وتوفر الموضوع: هي حالة مرضية غير مشجعة، ذلك أن الطالب الذي لا يستطيع أن يقنع ويختار مشرفه، وهو طالب يعاني نقصا في الإتصال.وفي اتخاد القرار وعليه أن يصحح ما استطاع هذا الخطأ، ويجتهد في تدارك الأمر.
إن هذا الطالب قد لا يجد مشرفا لبحثه، وقد يجد مشرفا غير مؤهل، أو مشرفا على منوال”مرغم أخاك لا بطل”… في جميع الحالات ينبغي على الطالب أن يتدارك الأمر.
*انعدام المشرف والموضوع معاً: هو مؤشِّر سيء، وعلى الطالب في هذه الحال أن يحدِّد وقتا معيَّنا، بين 4 إلى 8 أسابيع، لرسالة الماجستير وأطروحة الدكتوراه، وبين 2 و 3 أسابيع لمذكرة الليسانس أو شهادة مهندس الدولة؛ يسعى الطالب في هذه المرحلة لترتيب أموره والاجتهاد في الحصول على مشرف، وفي الاستقرار على موضوع جدير؛ وإن تجاوز هذه المدَّة، وطال الوقت دون الاستقرار على مشرف وعلى موضوع، فقد يقتضي من الطالب مغادرة حلبة البحث العلمي كلية، والذهاب إلى مجال الوظيف، فقد يكون هذا الخيار أفضل بالنسبة إليه…
من الاهتمام العام إلى إشكالية البحث
غالبا ما يكون محور البحث، في ذهن الباحث عامًّا، واسعاً، وغير منضبط، ثم يسعى بعد ذلك لتضييق مجاله، قدر المستطاع، “والحقيقة أنَّ التحرك من الموضوع العام، أو قضية البحث، إلى مشكلة البحث المحدَّدة، التي يمكن بحثها عمليا، يتضمَّن عمليتين أساسيتين:
1- التقدُّم على جبهة زيادة المفاهيم تحديداً، والتعرف على مكوِّناتها، وزيادة الاستبصار بها.
2- التقدُّم على جبهة تضييق نطاق القضية المراد بحثها، ليتمَّ الاقتصار على بعض ما يعني البحث، مما يعتبره أهمَّ جوانبها.
وتلك عمليات عقلية تتم في ذهن الباحث، وهي لا شكَّ تتطلب شيئا من الجهد والإصرار؛ لأنها يندر أن تتقدَّم بشكل مضطرد دائما، فالباحث قد يحسُّ في بعض الأحايين أنه يحقق فعلا شيئا من الوضوح والاستبصار، ولكنه قد يشعر أحيانا أخرى بأنه يسير في طريق مسدود وهكذا…”1
والمعين الأساس في ذلك هو:
*رصيد الباحث المعرفي والعلمي.
*المعرفة بالنظريات السابقة.
*الاطلاع على البحوث التي لها علاقة بموضوعه، من قريب أو بعيد.
*ثم الصبر والمثابرة، والعمل الدؤوب.
مصادر إختيار موضوع البحث:
يبنني الباحث موضوعه إشكاليته من مصادر عدة يستقيها من حياته، ومن أبرز هذه المصادر:
*التجارب المعيشة: يعيش الباحث تجاربا في حياته، بعض هذه التجارب تلقي بظلالها على الباحث فيضوع منها إشكالية لبحثه.
*الرغبة في أن يكون البحث مفيدا: إنَّ هذه الرغبة قد تكون مصدر إلهام للباحث في اختياره، وهذا السبب خارجي إلاَّ أنه ممكن الحدوث، ودافع لاختيار الموضوع أحيانا.
*ملاحظة المحيط: الفرق بين الإنسان العاديِّ والباحث هو أنَّ الأوَّل يلاحظ الأمور برتابة، غير أنَّ الثاني يتميز بملاحظته الدقيقة والمنظَّمة للأشياء، والتي تنتهي بطرح تساؤلات وإشكالات قد تبلور فتتحوَّل إلى بحث عميق مفيد.
*تبادل الأفكار مع الآخرين: لا يقلُّ هذا المصدر أهمية عن المصادر الأخرى، فيمكن للزملاء أن يوقظوا انتباهنا إلى مواضيع جديرة، أو يثمِّنوا اختيارنا لموضوع معين، أو ينبِّهونا إلى خطأ في اختيارنا، فاختيار الموضوع عملية تبادلية، وليست بعملية عقلية فردية مجرَّدة، «إنَّ تبادل الأفكار حول مواضيع بحث يسمح بالتفتح على آفاق جديدة»2 (انجرس، 124)
*البحوث السابقة: نظرا لطبيعة البحث التراكمية فإنَّ البحوث تتسلسل في الوصول إلى الحقيقة، وكلُّ بحث هو امتداد لبحوث أخرى، وهو مقدِّمة لبحوث جديدة، ولذا وجب الاطلاع على البحوث السابقة والبحوث الجارية لاختيار موضوع معين.
ضوابط شرعية وحضارية في اختيار الموضوع:
طالعتُ العشرات من كتب “منهجية البحث العلمي”، من مختلف المداخل والفنون، غير أنِّي لم أجد ضمنها من حاول صفَّ البحث العلمي في قائمة “العمل الصالح”، وفي عداد “الطاعة لله تعالى”، ومن ثمَّ لا يشترط فيه ما يشترط في العبادات من مدخل قرآني: من نية، وصدق، وغاية، وإخلاص… غير أني أستثني باحثا أو باحثين ممن حاول الإشارة إلى هذا الضابط الشرعي، وبخاصة فريد الأنصاري في كتابه الموسوم بـ”أبجديات البحث في العلوم الشرعية”.
والحقُّ أنَّ البحث العلميُّ عمل صالح، لا يختلف عن الإعمال الصالحة الأخرى في شيء، وهو استجابة لأمر الله تعالى، في قوله: «وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» (آل عمران: 57)، وفي قوله: «وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا» (النساء: 124).
ويمكن كذلك أن نضيف ضوابط حضارية:
*ضابط الهدفية: البحث بالأهداف من مناحي البحوث المعاصرة، ويعرف بالبحث بالأهداف، فقد تكون هذه الأهداف قومية، أو إقليمية، أو جماعية… الخ، حسب الدائرة التي يعمل الباحث ضمنها؛ ولعلَّ من أفضل النماذج ما حقَّقه “فنهوفر بوش” للولايات المتحدة الأمريكية، بوضعه لمخطط البحث العلمي بالأهداف، تحت إشارة الرئيس “فرانكلان روزفلت”، وملخص هذا المشروع أنَّ أيَّ بحث في أيِّ جامعة أمريكية لا يسهم في تحقيق “رقم واحد” لأمريكا، في أيِّ تخصص كان، لا تموٍّله الحكومة، ويرفض من الطالب… وهذا الإجراء هو نوع من الاقتصاد وتوجيه الطاقة، ولقد حقق نتائج باهرة لأمريكا.
*ضابط الأولويات: فقد يبدو للباحث أوَّل وهلة أنَّ بحثه هامًّا، لكن بعد التحقيق يتبين أنَّ ثمة ما هو أولى منه وأوكد، علما أنَّه يوجد علم جليل في الفكر الإسلامي يعرف بعلم “فقه الأولويات”، وعلم مفيد في الفكر الغربي يعرف بعلم “إدارة الأولويات”3 (باباعمي، )، ويمكن الاستفادة منهما في اختيار البحث، أو في الاختيار بين بحثين أو أكثر، مما قد يصعب على الباحث أن يبثَّ فيه.
*ضابط الرؤيا: لو أنَّ الباحث كان مواطنا لبلد له رؤية واضحة لعدد من السنين، أو كان منتميا إلى جماعة أو مجتمع أو شركة لها رؤية دقيقة، فليس من الحكمة أن ينجز بحثه خارج دائرة هذه الرؤيا.
*ضابط الرسالية: الرسالة هي لك الخط الذي تعمل المؤسسات والشركات على التوفق والبروز فيه، وعلى توجيه جميع الطاقات الممكنة نحوه، فرسالة مكب الدراسات ومعهد المناهج – مثلا – هي: التغيير في المنهج من منطلق قرآني. ومن ثمَّ لو قدِّر لباحثين أن يعملوا ضمن إطار المشروعين فعليهم الالتزام بهذه الرسالة، والسعي لتجسيدها بكلِّ ما أوتوا من قوَّة وفكر.
* سبق أن نشرنا عددا من الموضوعات ذات الصلة في موقع “ضفاف” يمكن العود اليها بإجراء عملية بحث بسيطة في الموقع ، أو في مواقع أخرى ،ولا ينبغي على الطلاب الاعتذار بأنهم لا يعرفون أسس المنهجية…ويجدون صعوبة في اختيار موضوعات رسائلهم وأطروحاتهم .
** مشرف عام فضاء “فيكوس .نت” ومدير معهد المناهج .في الجزائر العاصمة.
*تلخيص الطالب رستم بن محمد باعمارة، من كتاب اختيار الموضوع والإشكالية، تأليف د. محمد موسى باباعمي -غير منشور-
1- إبراهيم عبد الرحمن رجب: مناهج البحث في العلوم الاجتماعية؛ دار عالم الكتب، الرياض؛ 1424هـ/2003م، ص145-146
2- أنجرس موريس: منهجية البحث العلمي في العلوم الإنسانية، تدريبات عملية؛ ترجمة بوزيد صحراوي وآخرون؛ دار القصبة، الجزائر؛ ط2: 2006، ص124
3- محمد بن موسى باباعمي: أصول البرمجة الزمنية في الفكر الإسلامي مقارنة بالفكر الغربي؛ دار الأوائل، دمشق؛ ط2: 2006. ص253
* احفظ وشارك الموضوع
PostCategoryIcon مصنف في أكاديميا, للجامعيين خاصة
كتب
د.محمد موسى بابا عمي **
على من تقع مسؤولية إختيار الموضوع؟ كثيرا مايتردد هذا السؤال في الأوساط الأكاديمية، فتنقسم الأصوات بين من يرجع المسؤولية إلى الباحث والبعض الآخر إلى المشرف، وهناك من يعتبر الجامعة المخول الوحيد باختيار الموضوع، وهناك من يردها إلى جهات أخرى…
وفي نظري أن إختيار إشكالية للبحث هو بمثابة “الخطبة”، فالمسؤول عنها هو “الخاطب” أي “الباحث” لكن على الأستاذ المشرف أن يأخد بيده ويوجهه الوجهة الصحيحة، ويرشده إلى الظروف المحيطة بموضوعه، فقد يكون الموضوع المطروق موضوعا قتل بحثا ودراسة، وقد يكون موضوعا لا يستحق الجهد المبذول في سبيله.
ولعل من أبرز الأخطاء التي تجني فيها الجامعة على الطلبة والباحثين حين تقوم بتعليق جملة من العناوين التي تشغل مسيرة المشرف العلمية، ويفرض على الطلبة أن يختاروا عنوانا من بينها، هذا الإجراء يعتبر من معيقات البحث العلمي وهو من ألأسباب التي تجعبل الطالب نسخة من مشرفه ولا تضيف شيئا للمعرفة الإنسانية .
جدلية إختيار الموضوع والمشرف:
بالرجوع إلى واقع البحث العلمي في الجامعات الجزائرية خصوصا، وفي الجامعات العالمية بالعموم، نميز أربع حالات من العلاقة بين موضوع البحث والمشرف:
*توفر المشرف والموضوع معا: هذه هي الحالة المثلى التي يسعى كل طالب لبلوغها، وعلى الطالب أن يتثبت أن الموضوع يلائم المشرف ويثير إهتمامه، وأن قبوله لهذا الموضوزع ليس من قبيل المحاباة أو الضرورة أو حتى عن جهله بالموضوع أو مشرف لا يرد أحدا أو لأي اعتبارات أخرى خارجة عن المقاييس العلمية للاشراف والمشرف الجيد هو الذي يلتزم بالتوجيه ، ويتبنى الموضوع بحماس واهتمام ويتحمل مسؤولية النجاح والاخفاق.
*توفر المشرف وانعدام الموضوع : والغالب في هذه الحالة أن المشرف قد سبق أنم تعامل مع الطالب، وهو يقدر اجتهاده وملكاته لذا يثق فيه كل الثقة ويبدي استعداده للإشراف عليه حتى وإن لم يستقر بعد على موضوع معين.
في مثل هذه الحال على الطالب أن يعقد موعدا مع مشرفه ، ويتداولا أطراف المواضيع للإستقرار على “مجال ومحور على الأقل” ثم يجتهد الطالب في تفكيك موضوعه إلى أن يصوغ الإشكالية اللائقة.
*انعدام المشرف وتوفر الموضوع: هي حالة مرضية غير مشجعة، ذلك أن الطالب الذي لا يستطيع أن يقنع ويختار مشرفه، وهو طالب يعاني نقصا في الإتصال.وفي اتخاد القرار وعليه أن يصحح ما استطاع هذا الخطأ، ويجتهد في تدارك الأمر.
إن هذا الطالب قد لا يجد مشرفا لبحثه، وقد يجد مشرفا غير مؤهل، أو مشرفا على منوال”مرغم أخاك لا بطل”… في جميع الحالات ينبغي على الطالب أن يتدارك الأمر.
*انعدام المشرف والموضوع معاً: هو مؤشِّر سيء، وعلى الطالب في هذه الحال أن يحدِّد وقتا معيَّنا، بين 4 إلى 8 أسابيع، لرسالة الماجستير وأطروحة الدكتوراه، وبين 2 و 3 أسابيع لمذكرة الليسانس أو شهادة مهندس الدولة؛ يسعى الطالب في هذه المرحلة لترتيب أموره والاجتهاد في الحصول على مشرف، وفي الاستقرار على موضوع جدير؛ وإن تجاوز هذه المدَّة، وطال الوقت دون الاستقرار على مشرف وعلى موضوع، فقد يقتضي من الطالب مغادرة حلبة البحث العلمي كلية، والذهاب إلى مجال الوظيف، فقد يكون هذا الخيار أفضل بالنسبة إليه…
من الاهتمام العام إلى إشكالية البحث
غالبا ما يكون محور البحث، في ذهن الباحث عامًّا، واسعاً، وغير منضبط، ثم يسعى بعد ذلك لتضييق مجاله، قدر المستطاع، “والحقيقة أنَّ التحرك من الموضوع العام، أو قضية البحث، إلى مشكلة البحث المحدَّدة، التي يمكن بحثها عمليا، يتضمَّن عمليتين أساسيتين:
1- التقدُّم على جبهة زيادة المفاهيم تحديداً، والتعرف على مكوِّناتها، وزيادة الاستبصار بها.
2- التقدُّم على جبهة تضييق نطاق القضية المراد بحثها، ليتمَّ الاقتصار على بعض ما يعني البحث، مما يعتبره أهمَّ جوانبها.
وتلك عمليات عقلية تتم في ذهن الباحث، وهي لا شكَّ تتطلب شيئا من الجهد والإصرار؛ لأنها يندر أن تتقدَّم بشكل مضطرد دائما، فالباحث قد يحسُّ في بعض الأحايين أنه يحقق فعلا شيئا من الوضوح والاستبصار، ولكنه قد يشعر أحيانا أخرى بأنه يسير في طريق مسدود وهكذا…”1
والمعين الأساس في ذلك هو:
*رصيد الباحث المعرفي والعلمي.
*المعرفة بالنظريات السابقة.
*الاطلاع على البحوث التي لها علاقة بموضوعه، من قريب أو بعيد.
*ثم الصبر والمثابرة، والعمل الدؤوب.
مصادر إختيار موضوع البحث:
يبنني الباحث موضوعه إشكاليته من مصادر عدة يستقيها من حياته، ومن أبرز هذه المصادر:
*التجارب المعيشة: يعيش الباحث تجاربا في حياته، بعض هذه التجارب تلقي بظلالها على الباحث فيضوع منها إشكالية لبحثه.
*الرغبة في أن يكون البحث مفيدا: إنَّ هذه الرغبة قد تكون مصدر إلهام للباحث في اختياره، وهذا السبب خارجي إلاَّ أنه ممكن الحدوث، ودافع لاختيار الموضوع أحيانا.
*ملاحظة المحيط: الفرق بين الإنسان العاديِّ والباحث هو أنَّ الأوَّل يلاحظ الأمور برتابة، غير أنَّ الثاني يتميز بملاحظته الدقيقة والمنظَّمة للأشياء، والتي تنتهي بطرح تساؤلات وإشكالات قد تبلور فتتحوَّل إلى بحث عميق مفيد.
*تبادل الأفكار مع الآخرين: لا يقلُّ هذا المصدر أهمية عن المصادر الأخرى، فيمكن للزملاء أن يوقظوا انتباهنا إلى مواضيع جديرة، أو يثمِّنوا اختيارنا لموضوع معين، أو ينبِّهونا إلى خطأ في اختيارنا، فاختيار الموضوع عملية تبادلية، وليست بعملية عقلية فردية مجرَّدة، «إنَّ تبادل الأفكار حول مواضيع بحث يسمح بالتفتح على آفاق جديدة»2 (انجرس، 124)
*البحوث السابقة: نظرا لطبيعة البحث التراكمية فإنَّ البحوث تتسلسل في الوصول إلى الحقيقة، وكلُّ بحث هو امتداد لبحوث أخرى، وهو مقدِّمة لبحوث جديدة، ولذا وجب الاطلاع على البحوث السابقة والبحوث الجارية لاختيار موضوع معين.
ضوابط شرعية وحضارية في اختيار الموضوع:
طالعتُ العشرات من كتب “منهجية البحث العلمي”، من مختلف المداخل والفنون، غير أنِّي لم أجد ضمنها من حاول صفَّ البحث العلمي في قائمة “العمل الصالح”، وفي عداد “الطاعة لله تعالى”، ومن ثمَّ لا يشترط فيه ما يشترط في العبادات من مدخل قرآني: من نية، وصدق، وغاية، وإخلاص… غير أني أستثني باحثا أو باحثين ممن حاول الإشارة إلى هذا الضابط الشرعي، وبخاصة فريد الأنصاري في كتابه الموسوم بـ”أبجديات البحث في العلوم الشرعية”.
والحقُّ أنَّ البحث العلميُّ عمل صالح، لا يختلف عن الإعمال الصالحة الأخرى في شيء، وهو استجابة لأمر الله تعالى، في قوله: «وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» (آل عمران: 57)، وفي قوله: «وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا» (النساء: 124).
ويمكن كذلك أن نضيف ضوابط حضارية:
*ضابط الهدفية: البحث بالأهداف من مناحي البحوث المعاصرة، ويعرف بالبحث بالأهداف، فقد تكون هذه الأهداف قومية، أو إقليمية، أو جماعية… الخ، حسب الدائرة التي يعمل الباحث ضمنها؛ ولعلَّ من أفضل النماذج ما حقَّقه “فنهوفر بوش” للولايات المتحدة الأمريكية، بوضعه لمخطط البحث العلمي بالأهداف، تحت إشارة الرئيس “فرانكلان روزفلت”، وملخص هذا المشروع أنَّ أيَّ بحث في أيِّ جامعة أمريكية لا يسهم في تحقيق “رقم واحد” لأمريكا، في أيِّ تخصص كان، لا تموٍّله الحكومة، ويرفض من الطالب… وهذا الإجراء هو نوع من الاقتصاد وتوجيه الطاقة، ولقد حقق نتائج باهرة لأمريكا.
*ضابط الأولويات: فقد يبدو للباحث أوَّل وهلة أنَّ بحثه هامًّا، لكن بعد التحقيق يتبين أنَّ ثمة ما هو أولى منه وأوكد، علما أنَّه يوجد علم جليل في الفكر الإسلامي يعرف بعلم “فقه الأولويات”، وعلم مفيد في الفكر الغربي يعرف بعلم “إدارة الأولويات”3 (باباعمي، )، ويمكن الاستفادة منهما في اختيار البحث، أو في الاختيار بين بحثين أو أكثر، مما قد يصعب على الباحث أن يبثَّ فيه.
*ضابط الرؤيا: لو أنَّ الباحث كان مواطنا لبلد له رؤية واضحة لعدد من السنين، أو كان منتميا إلى جماعة أو مجتمع أو شركة لها رؤية دقيقة، فليس من الحكمة أن ينجز بحثه خارج دائرة هذه الرؤيا.
*ضابط الرسالية: الرسالة هي لك الخط الذي تعمل المؤسسات والشركات على التوفق والبروز فيه، وعلى توجيه جميع الطاقات الممكنة نحوه، فرسالة مكب الدراسات ومعهد المناهج – مثلا – هي: التغيير في المنهج من منطلق قرآني. ومن ثمَّ لو قدِّر لباحثين أن يعملوا ضمن إطار المشروعين فعليهم الالتزام بهذه الرسالة، والسعي لتجسيدها بكلِّ ما أوتوا من قوَّة وفكر.
* سبق أن نشرنا عددا من الموضوعات ذات الصلة في موقع “ضفاف” يمكن العود اليها بإجراء عملية بحث بسيطة في الموقع ، أو في مواقع أخرى ،ولا ينبغي على الطلاب الاعتذار بأنهم لا يعرفون أسس المنهجية…ويجدون صعوبة في اختيار موضوعات رسائلهم وأطروحاتهم .
** مشرف عام فضاء “فيكوس .نت” ومدير معهد المناهج .في الجزائر العاصمة.
*تلخيص الطالب رستم بن محمد باعمارة، من كتاب اختيار الموضوع والإشكالية، تأليف د. محمد موسى باباعمي -غير منشور-
1- إبراهيم عبد الرحمن رجب: مناهج البحث في العلوم الاجتماعية؛ دار عالم الكتب، الرياض؛ 1424هـ/2003م، ص145-146
2- أنجرس موريس: منهجية البحث العلمي في العلوم الإنسانية، تدريبات عملية؛ ترجمة بوزيد صحراوي وآخرون؛ دار القصبة، الجزائر؛ ط2: 2006، ص124
3- محمد بن موسى باباعمي: أصول البرمجة الزمنية في الفكر الإسلامي مقارنة بالفكر الغربي؛ دار الأوائل، دمشق؛ ط2: 2006. ص253
* احفظ وشارك الموضوع
PostCategoryIcon مصنف في أكاديميا, للجامعيين خاصة
الأنصاري؛ روايته الأخيرة "عودة الفرسان"، نص المولد وخطاب الوداع
الأنصاري؛ روايته الأخيرة "عودة الفرسان"، نص المولد وخطاب الوداع
العدد: 18 (يناير- مارس) 2010
أ.د. سليمان عشراتي / تحليل كتاب
حين يخوض الأنصاري في توثيق سيرة الداعية المصلح فتح الله كولن، تكون الكتابة بالنسبة إليه استشفاءً، وتجملا، ومقاومة لكوابيس الداء العضال، واستجماعا لكل ما في المعين من بذور وفسائل عاجَلَها الرحيلُ عن أن تتفتح وتزدهر وتستوي على سوقها.
يمكن أن يقال عن هذه الرواية إنها النص الوداع، الرسالة الوصية، البيان الختامي، المتن الوديعة، بل إنها صوت احتسابي صادر عن نفس تنحني في مقام الاستسلام، وتذعن للقدر برضى، كما يقتضي الإيمان من المسلم الحق.
إنه النص الجسر الواصل بين إسطنبول ومكناس، نص حَوْلِيٌّ اختزل الأجندة، واختصر في فصوله أطوار حياة الأنصاري، من حيث شَعر الأنصاري أو لم يشعر. كتابة هذا النص هي في الأساس تنقيب في مراحل سيرة الداعية فتح الله، لكنها غدت في استطرادات عدة من متنها كتابةً عن الذات، ولا غرو أن تتلابس الأشجان، فالمرء مع من يحبّ، والروح تتعشق أن تُنَوِّهَ بشمائلها الشخصية من خلال التنويه بأشخاصِ مَنْ تتجسَّد فيهم تلك الشمائل.
الكتابة فعل احتسابي
وواضح أن الأنصاري أقبل على الكتابة وهو لا يعرف ما جنس النص الذي سيخوض في تحريره.. كل الذي يدريه أنه يُقْدِمُ على الكتابة تحت باعث قويٍّ، مكينٍ: "ربما كان هذا النص الذي أقدمه اليوم للقراء رواية، أو سيرة، أو ربما كان قصيدة، أو كتاب تاريخ.. لست أدري"..!
ومن أول وهلة يكشف لنا الكاتب عن مكان ولادة هذا النص، ويُبَيِّنُ المنازلَ التي شهدتها عملية نَماء وتشكُّل هذه الرواية، بل ونراه من خلال تقنية القطع والالتفات السرديَين، يميط اللثام عن الحال الدرامية التي تم فيها المخاض وتحقق الوضع: "إنني شرعت في تدوين ملاحمه بمستشفى "سماء" في مدينة إسطنبول العامرة سنة 2008، ثم دوّنت بعضها بعد ذلك ببيتي في مدينة مكناس بالمغرب الأقصى، ثم قُدِّرَ لي أن أختمها بعد سنة كاملة بمستشفى "سماء" مرة أخرى في مدينة إسطنبول!".
وبما أنه يكتب عن أحد أبرز أئمة الدعوة المميَّزين بالعبقرية في العصر الراهن، فلابد أن نراه يبادر إلى الكشف عن معاناة الموهوبين، إيعازا بما يلقى هذا الإمام من أنواع المكابدات، وربما إيعازا كذلك بما كان يستشعره هو أيضا من دنوّ الأجل.. فالعبقرية عطاء مُبْكِر في الحلول، مبكر في الأفول. يقول متحدثا عن فتح الله: "أيّ بلاء أشد على المرء من أن يعيش قبل أوانه، ويعاشر غير أهل زمانه؟".
لا ريب أن التواشج هنا قائم بين شخصية الكاتب وشخصية المكتوب عنه، ذلك أن الترابط بين الأنصاري وبين الداعية فتح الله كان معنويا، قَريحيّا، والتجاذب بينهما قام على أساس من انشداد الروح إلى الروح. كان الأنصاري المنحدر من أرض طفقت تصدِّر إلى الآفاق أعلاما من رجال السلوك والتأسيس الطُّرُقي، يبحث عن القطب الذي يتواثق معه على المرابطة، فاختلبته رايات الطائفة النورية، فأناخ ناقته وأخذ مجلسه من الحلقة، وانخرط رأسا في استظهار الأذكار. لقد وجد في فتح الله إمامه، وتبين فيه وراثة السر والمفتاحية.
ومن الطبيعي أن يسلس للسارد القول وتحتدم الشعرية من خلال ما يوفره له البعد المكاني الذي حلّ به، والذي تدور فيه وقائع الرواية (إسطنبول) من دواعي الإعراب. إنه فضاء حافل بالتداعيات التاريخية والمرموزية.
ومنذ البدء تجد النفس ذاتها مشتحنة بمشاعر اللوعة والجيشان، إذ هناك ما يبعث على مثل ذلك التهيج الوجداني الذي بدا وأنه -كأغوار البحر- يتلاطم من خلال مجاري العمق والتيارات الجوفية.. وهكذا تهيأ للكاتب العليل أن يعيش ومنذ ساعة هبوطه إلى تلك البقاع، حالةً متوترة من المواجهة مع التاريخ، ومن المكاشفة والإفصاح عن طاقم الفجائع الكبرى التي ما زالت أصداؤها المشؤومة تدوّي في روح الكاتب. وما أسرع ما نعرف أن كاهله ينوء بإرهاقات ثلاثة مزمنة تثوي في العمق، ثلاثة تصدعات لا تزال مفتوحة في جسد الذاكرة: هزيمة الأندلس، وضياع الخلافة، واعتقال الأقصى.
العلة الجسدية إذن تزيد أدواءُ الاعتلال المعنوي من التهابها، وذلك ما يفاقم من وضع الكاتب.
التوحد
ثم لا نلبث أن نرى الكاتب يتوحد مع شخص كولن، أو هو بالأحرى يستشعر ما كان يقرب بينهما من قواسم، فكلاهما على وعي متفجر بمواقع الداء منه، وكلاهما قضى عليه القدر والألمعية أن تستغرقه رحلةُ البكاء.
الداء يمتطي صهوت كولن فينوح، وداء آخر يسحق كينونة الأنصاري فلا يملك سوى أن يبكي هو أيضا، وفي الحالين يبقى الأمل والعزيمة وحدهما مناط هبوب نسيمات الرجاء في استعادة السلامة والعافية والتجدد: "رجلٌ وحده يسمع أنينَ الأسوار القديمة، ونشيجَ الريح الراحل ما بين طنجة وجكارتا! وبكاءَ النورس عند شواطئَ غادرتها سفنُ الأحبة منذ زمان غابر، ولكن لم يشرق لعودتهم بَعْدُ شِرَاعٌ!.. فيبكي"!
وتصرّ السردية على أن تعمق هذا الملمح الاحتراقي البارز في شخصية كولن، فتضيف: "رجلٌ وحده يسمع صهيلَ الخيل القادمة من خلف السُّحُبِ، ونداءَ الغيبِ المحتجِبِ، إذ يتدفق هاتفه على شاطئ صدره، فينادي مِنْ عَلَى منبره: ألاَ يا خيلَ الله اركبي!.. ويا سيوف البرق الْتَهِبِي!.. ويَرَى ما ليس يُرَى.. فيبكي!".
وتلتفت السردية تارة أخرى إلى استقراء رمزية اسم "البطل" فتراها رمزية تحمل في دلالتها معاني البشرى التي أناط القدر بالداعية الإمام مهمة زرع فسائلها وملء الحقول من حواليه بها: "فتح الله سيرةُ بكاء! لقبه الأسري: "كُولَنْ"، ومعناه "الضحاك" باللسان التركي، وهذا من عجائب الأضداد، ومن غرائب الموافقات أيضا! فهو بَكَّاءُ الصالحين في هذا العصر، لكنه ما بكى إلا ليضحك الزمان الجديد، وليزهر الربيع في حدائق الأطفال. ما رأيت أحدا أجرى دمعا منه، ولا أكثر وَلَهًا.. وكأنما دموع التاريخ جميعا تفجرتْ أنهارها من بين جفنيه!".
كولن والنورسي
بل إن الرواية لتجعل من صفة البكاء التي يتميز بها كُولن مَجْلًى مُشَخِّصاً لمهمة الافتداء والعطاء التي نذر نفسه لها، حين اختار أن يسلك للحياة سبيل التنسك والانقطاع إلى الخدمة وبذل الصالحات. كولن مثل الأستاذ النورسي، ومثل قطاع متميز من أهل الله، عاشوا كينونتهم في صيام وقيام، إذ قدَّروا أن لا وقت لديهم ينفقونه في غير ما يحقق معنى الكمال الإنساني الذي به تتحقق الاستخلافية، استخلافية الإنسان في الأرض.
فالبكاء -حسب قول السارد- هو مجرد عنوان حالي لملاحم من جليل الرهانات التي اجتازها كولن عبر حياته ومنذ الميعة: "ولقد أخطأ من ظنه يبكي ضعفًا أو خَوَرًا! وإنما هو جَبَلٌ تشققت أحجاره عن كوثر الحياة الفياض؛ فبكى! الوعظ سر من أسرار فتح الله! فلم يزل منذ طفولته يبكي بمجالسه؛ فتبكي لبكائه كل عصافير الدنيا! ولقد رأيته يبكي طفلاً وشابا، ثم كهلاً وشيخا! ولم يزل يبكي ويبكي.. وما جفّ لتدفّق شلالاته نَبْعٌ! بدموع مواعظه الْحَرَّى سقى فتحُ الله كل غابات بلاد الأناضول! وبها أروى عطش الخيل، وأطعم فقراء الليل! وبوابلِ بوارقها سقى كل صحارَى العالم! ولقد عجبتُ من أي جبال الدنيا تخرج منابعه؟".
ومن البيِّن أن الكاتب -وهو يستعرض ملامح المعاناة التي عليها فتح الله- كان يجد مجالا لترجمة كثير مما بنفسه هو من ذعر واندحار ومصابرة.. فالبطولة السردية في مطلع الرواية تنحو منحى تَشارُكِياً، بحيث نحسّ أن شخصية الأنصاري وشخصية الإمام فتح الله تتقاسمان أو تبادلان دور الحضور بصورة طبيعية، وذلك بحكم ما يقوم في روح الأنصاري من إكبار ومحبة لشخص الإمام، جعله يقرأ مساحة من همومه هو في خريطة هموم وأرزاء الإمام. فحِسُّ البيعة والتبعية جليّ في الخطاب، إذ العلاقة التي تربطه بفتح الله هي علاقة المريد بشيخه، والجندي بقائده، والابن بأبيه.
هنا يقع نوع من التطابق بين وضع السارد ووضع المسرود له، من حيث وحدة وطبيعة المقاومة التي يقتضيها مطمح الانتصار في المعركة الحسية والمعنوية، على الرغم من انبثاق إشارات متواترة تكشف أن أولوية الحسم بالنسبة للأنصاري في تلك المعركة، إنما هي الصمود والتغلّب على العلة الجسدية، إذ كانت هي "النازلة" التي تقف حاجزا أمام ما كان يأمل أن يكون له من بلاء.
ويقع التطابق المسلكي بينهما كذلك، اعتبارا لما كان يرشّح له الأنصاري نفسه في المحنة التي يمر بها، من حيث وجوب السير على خطى شيخه، فيمضي على نهج من التماسك، والتجرد، والتعالي عن الوهن، والتواري عن الأضواء؛ فالاقتداء بأهل الريادة و"النموذجية" يعني أن نتعلم كيف نتَـلَقَّي السهام بسنّ ضاحك، ووجه طلق، وملامح تخفي طعاناتها وراء خطوط من الاستبشار.
في إسطنبول
أبحر الأنصاري إلى إسطنبول على أمل الشفاء، وحل بتلك الحاضرة ذات الماضي المجيد، وألقى بنفسه على ذات الموج الذي عبر فوقه سائر الفاتحين: "هنا إسطنبول.. هنا معبر الفاتحين إلى كل أدغال العالَم!.. ما إن دخلتُ بين مآذنها حتى انتشى قلبي أملاً! لكنني لـمّا اقتربت من جِسْرِ البُوسْفُورِ مَسَّنِي فَزَعٌ!.. كانت النوارسُ تضج في الفضاء بشكل مثير على غير عادتها..! فلَم أَدْرِ أَعُرْسٌ هو أم محض عويل؟.. ومن يدري؟".
أجل وإنه لحق قول الله عز وجل ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾(لقمان:34).
تُرى هل أحس الأنصاري وهو يعبر الجسر، بالنذر ترشقه بسهامها الرعناء؟ هل دَرَى -هو الباحث عن الأسرار- أن رحلته إلى عالم الآخرة ستكون من صدد ذلك الأفق الذي حل به، في مشفى السماء حيال البحر، وأن الجزر الخمس زينة ذلك العرض الفردوسي، ستكون هي المحطة النهائية التي سينتهي عندها نظره في سعي منه أن يخترق الحجب صوب الأندلس الفقيدة، وصوب المغرب البعيد، حيث الأحبّة، وحيث يمتد الجناح الآخر من الوطن الملّي..
مهيض الجناح هو بعرض البحر، لا يقدر على حراك، ولا يتأهّل لتحدّ.
مشهد الجسر الرابط بين آسيا وأوروبا، والذي عبره الأنصاري وهو ينـزل بلاد النور، كانت دلالته حادة في شعوره، وعنوانًا على قرب الاجتياز، وشارة منذرة بقرب انتهاء الرحلة وطي الكتاب.
ويحاول الأنصاري أن يستمد السلوى في ليل الوحشة والبعد عن الأهل من هبوب نسمات الحلم.. فالحلم هو حقيبة البشائر التي يلقي بها أمامنا الأملُ حين يلفنا الموت الأصغر، وهكذا رأى الأنصاري نفسه يَطعم عسلا، ورأى أسراب النحل تعتصر الرحيق من مآقي شيخه الإمام.. وواضح أن الدلالة الاقتضائية تومئ هنا إلى ما كان يتبَرْعم في روح الأنصاري من أمل بنيل الحاجة، والأوبة إلى وطنه محمَّلا بالمغانم.
بل إن للنحل والعسل -هنا- دلالة مناطة بمطمح الشفاء الحقيقي والمجازي الذي ينشده الأنصاري بَلْسما لمرضه الحسّي، ومرض الأمة المعنوي.
من جهة أخرى نراه يسترفد للحالة التي تطبق عليه بعتامتها بيتا للمعري:
أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَـ * * * ـنَّتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ..؟
فالشعر في حال انهدار المعنويات، له دور السند على كل حال، وواضح أن الأنصاري، ومن خلال تسويق هذا الشاهد الشعري، يرسم صورة للوجود، ليس كرؤية شك وحيرة وعدم إذعان، وإنما كحسرة على الأفول العاجل وحُرقة على المغادرة المبكرة.
سماء الأمل
إنه يعيش مفصلا دقيقا، بل متصدعا من عمره، لا تفتأ النفس تبحث فيه عن مسرب للانفلات من تحت الأنقاض، وإنّ وقْعَ ذلك الوضع المتأزم ليتردد دويه العنيف في أوصال الخطاب: "..لِزَمَانِ التحولاتِ وَقْعُ الزلازلِ على المنَازِل"!
النفس تظلّلها آناءات من الأمل وأخرى من اليأس، وتلك هي حال من تكون إصابته ضاربة في الأغوار، فحيال جثوم الحسرة على القلب، لا يسع الخطاب إلا أن يراوح بين محطتي الأمل واليأس، إذ لا تملك النفس إلا أن تلازم تلك الكوة الصغيرة المطلة على سماء الأمل تتطلع منها، لكن مسلسل الانهيارات يستمر دويُّه، ويستمر شريط الصور القاتمة يلف الحس بحَبْل الكآبة، يلتمع حينا، ويرتد إلى دكنته حينا آخر، فيطول العناء، ويتزايد حجم التمزقات: "كانت الأرض تدور بمنـزلة ذات طبيعة أخرى، تتداخل فيها الشعاعات بين غروب وشروق!".
واضح أن سياقات المدخل لبثت تومض باللون الأحمر، لون الخطر، معلنة عن تكدر الأفق ببوادر حُدادية، بحيث إن مفردات الخطاب ذاتها تعكس شيئا من برودة المدافن، وارتجاف القلوب المقهورة: "وكانت الريح تقصف ببرد قارس! وأسرابُ الحمام والنوارس تطير هاربة، لتحتمي من صقيعها تحت أضلاع المآذن والقباب!".
إن الحماية هنا مطلب ملحّ، يَخُصُّ الأنصاري، وإن مناط هذه الحماية بالنسبة إليه هو الاعتصام بالمآذن والقباب. خطاب الرواية في هذا الشطر من التوطئة يفصح عن كثير من المضْمَرات الروحية، ربما غير المدركة حتى من قبل الكاتب نفسه، والتي تعبر عن تعمّق حس الاستشفاع لديه.
إن مطلب الاحتماء يظهر ملموسا في ثنايا الخطاب، ومن خلال إيعازات واضحة. ولقد طفقت الأدبية وهي تسرد موضوعها، تلَوِّنُ المساقات بلون النفس وغبش جوها الصقيعي. هناك إفراغ وجداني تَهيّأ للأنصاري في مدخل الرواية، فاسترسل يغترف من عدة شاعريته، ويصوغ ألحانا فيها نبرة حزن معلنة. بل إن العبارات أحيانا لَتعكس في حدَّتها وجنائزيتها صورة الانتكاس، والانقباض، والانطواء على الذات، والانتظار المؤذي، والتطلّع إلى اليد التي تمسح على الجسد بأنامل بَلْسمية تزرع العافية.. هذه هي نوعية الأصداء التي تنتهي إلى حس القارئ وهو يتابع مطلع الرواية.
ألم الميلاد
ولأن الأنصاري روحاني بِجِبِلَّته وعميق إيمانه، متمرّس بتلقي الإشارات وعَقْدِ نِيّاتِ الاستخارة، فقد أمْكنَهُ -كما تخبر الرواية- أن يقرأ في ما تلقاه من واردات أن النورسي يحيله إلى صاحب الزمان الذي سيتمكّن من أن يجد لديه حاجته ويحصِّل بغيته: "أما علمتَ أنَّ لكل زمان صاحبَه؟".
ولا يسع الأنصاري إلا أن يستوثق ليعرف من هو "صاحب الزمان"، فيأتي رد النورسي مفصل الإشارات والدلالات، إذ قال: "ويحك يا صاح! أما صاحب هذا الزمان فله مولدان اثنان! أولهما هو في المكان، وقد كان الذي كان؛ وأما الثاني فإنما هو في الزمان! فَارْتَقِبْ إبَّانَ هيجانِ الجرح، يومَ تأتي الرياح بحداء الأنين! فإنه لا ميلاد إلا بألم! واظفر بثاني المولدين تَرِبَتْ يداك! إنك يا ولدي إن تدرك إشراقتَه تكن من الفاتحين!".
ويفلت منه سؤال معرفة المصير: "قلت: فهل لي أن أكون من طلائعهم؟"
وواضح أنه بهذا السؤال يُصِرُّ على أن يكون واحدا منهم، بل أن يكون طليعة الطليعة، لأن في ذلك الموقع المتقدم تتحقق له الحياة الحق. إن المؤمن لا يرهبه الموت عندما تكون المزاحفة هي الطريقَ إلى الهدف، إنما الموت الذي يقهر المؤمن هو الموت خارج ميدان المعركة، إن توقّف المسلم عن الزحف بشتى أنواعه التعميرية والدعوية، يُعَدُّ بطالة قاتلة، حيث تكلّ أسباب الصمود، وتتراجع إرادة المغالبة. ولقد عبّر سيدنا خالد بن الوليد عما يجده المؤمن من وطْأة وغبن جرَّاء انتظار الموت على فراش العلة: "ها أناذا أنفَقُ في فراش الـسلولية كما ينفَقُ العير في المراح.. فلا نامت أعين الجبناء".
إن انتظار الأجل يتحول عند المبْتلين إلى حالة من الإنهاك الكابوسي الذريع، أشبه بواقعه عدوان غاشم يستولي على الحمى بلا مقدمات.
رمزية الأشياء
ولقد تبطّن خطاب الرواية بإيعازات ورموز تنفتح دلالتها على التفاؤل. ولا غرو أن يكون الأمر كذلك، فإن وازع المقاومة يجد في استدعاء معاني البِشْر والتفاؤل، وفي اللوذ بحُرمة المقدسات، ما يلبّي شيئا من حاجة النفس إلى الإسناد والثبات. ويمكن -في هذا الصدد- أن نرى في تواتر لفظ الحمام وجها من هذه الصمودية التي تقتضيها منا الأوضاع الصعبة. إن لفظ الحمام يتردد في هذا المدخل بكل ما يومئ إليه من رمزية ودلالة تجسّد مطلب البحث عن المنَعة والخلاص والتواصل والسلام. إن في مدلول لفظ الحمام إحالة إلى محيط الأشواق التي تمور في أعماق الكاتب، البعيد عن الأهل، والمقيّد بالأثقال.
إن الخطاب يشتحن بمحمول دلالي موضوعي ينساق في الوجهة التي تتوخى الرواية أن تسلكها، وهي تدوين سيرة الإمام، وهذا المحمول الدلالي الموضوعي يلابسه محمول دلالي آخر ذاتي، لا يفتأ يعترض السياقات، لينفّس عن لواعج النفس، وفي كلا الحالين يظل السياق يعرب عن تفاؤل ينسجم مع طبيعة المؤمن الذي -بفضل إيمانه- يستمد رحمة الله من صميم تعاليم عقيدته: "ارْفع رأسك قليلا نحو الأفق الأعلى؛ تَرَ شمس البشرى ترتفع الهوينى من خلف الأحزان، وتَرَ كلمات النور الأولى ترسم بين يديها قوس قزح، وتطرّز على موج البحر نبوءَتها.. فإذا كنتَ ممن يحسن لغة الماء فاقرأ: تُفْتَحُ القسطنطينيةُ أوَّلاً ثم تُفتح روميةُ!؟".
وحين يشير الخطاب إلى نص الحديث "تفتح القسطنطينيةُ أولا ثم تفتح رومية"، فإن مدلول الفتح هنا يوعز بالبعد التأييدي الذي تفيض به جوانح الأنصاري حيالَ مشروع الدعوة والتأسيس الذي ينهض به الفاتحون، ويوعز في الآن ذاته إلى المطلب الخلاصي الذي يتطلع إليه الكاتب، إذ من العقيدة ونصوصها، لاسيما من تنبّؤاتها المستقبلية (المآلية) ومبشراتها المصيرية يستلهم الأنصاري في محنته الألطاف الإلهية. فالكاتب لا يفتأ -على هذا النحو الخطابي المتراسل- يستنـزل الرحمات الإلهية، إذ لا ييأس من أن رحمة الله قريبة منه، وأنها ستتخطّى به ذلك الصعيد الحالك للمحنة التي حلّت به.
وكما رتّب القدر للإمام فتح الله موعد ولادة ثانية قد بدأَت علاماتها تلوح في الأفق من خلال الإنجازات الميدانية، فكذلك بات رهان الأنصاري يتركز على ما سيتحقق له من مولد ثانٍ مُرتجى، مولد الانبعاث وعودة العافية إلى الجسد المخترَق بالداء. والسياق الحواري يسدّد نحو نقطة حاسمة، مركزية، يريد الأنصاري من خلالها أن يعرف هل يُكتب له أن يكون من طلائع هذا الزحف الذي شرعت كتائب الفتح تنتشر في الآفاق. إنه في ذلك الموقف المشوش، يُشبه وضع موسى عليه السلام مع فتاه في قصة العبد الصالح. لقد تقاطعت في وجدانه صورة موسى عليه السلام مع فتاه، وصورته هو مع مرافقه الذي يرعاه ويسهر على خدمته: "قلت لفتاي: ويحك يا ولدي! ذلك ما كنا نَبْغ..".
هكذا يستدعي السرد مقامات الارتحال والضرب في الأرض كما جسّدتها الرموز ممن حازوا مرتبة العبْدية على معابر من نار العبودية والتمحيص. فالإحالة السردية هنا تستحضر قصة العبد الصالح مع فتاه، في سفَرهما الخارق، وتحيل إلى تجربة التمحيص التي كشفت -في جملة ما كشفت- عن تلك المشاقّ التي تَعْرِضُ لمن يراهن على تحصيل السر، والظفر بالحقيقة.
وطبيعي أن التماثل بين فتى موسى والأنصاري تماثُلٌ في المقصدية، إذ إن مطلب الأنصاري في سفره أن ينفذ إلى برزخ التجدد، فيغْنَم من رحلته تلك، ويعود إلى وطنه معافى، وصاحب حاجة، وجنْديّا قد تم إدماجه في المفرزة، عن جدارة واستحقاق: "ثم مكثت عاما كاملا بعد تلك المشاهَدات! أنتظر المزيد ولا من مزيد! ورجعتُ إلى وطني أنتظر الإذن بالرحيل مرة أخرى إلى بلاد النور!".
عودة إلى الديار المغربية
وتومئ القصة إلى بعض أطوار تلك السنة التي قضاها الأنصاري في المغرب، يتصيد الانبثاقات الفجرية من هذا الصدد وذاك، وكل شيء من حوله يذكّره بفواجع التاريخ، فالنفس المروّعة لا تَقرأ في الأفق إلا ما يتساوق مع انكسافها: "ما بين طنجة وجبل طارق، يَرْقُدُ بوغاز الأحزان!.. لم تزل نوارسُه كلَّ مساء تحكي بنشيجها الشجي مأساةَ الموريسكيين".
وطبيعي أن تأتي اللوحة مفعمة بمعاني النعي والرثاء والقشعريرة والهيجان الشعوري العارم: "كنتُ أسير حافي القدمين ما بين طنجة وتطوان؛ لعلي ألتقط صوتَ حمام زاجل، قيل لي: إنه لم يزل ههنا مُذْ عَبَرَ أميرُ غرناطة الأخير طريداً من جنّته! فرثاه هذا الحمام الغريب بكنوز من أسرار الحكمة! قيل لي: إن له هديلا كلما انطلق شجاه اقشعرت له صخور الشاطئ! وبكَت النوارسُ واهتاجت الأمواج!".
إن انقطاع مدد التجليات عُقْمٌ وجداني لا تحتمله روح المرابط.. ومع ذلك تأْبى النفس إلا أن ترابط عند إقليم الرجاء، خلف أسوار ليلِ القنوط، متصبرة ومحتسبة، تتوقع حلول رحمة الله في كل آن.. ويتحدث الأنصاري عن مواعيد شقية كان الابتئاس يشتد فيها عليه. وتبلغ تلك المواعيد ذروتَها عند حلول المساء، والمساء كما نعرف هو مناط عذابات المفجوعين، فتنوع مشاهد النكبات تغدو هي المحطة التي ترسو عليها أرواح المنكوبين حين يحل الليل، وهي العلقم الذي يدمنون على تعاطيه في ذلك الميعاد المليء بالوحشة والزمهرير.
استحضار النكبات
وواضح أن استحضار الأنصاري لنكبة "المورسيكيين" ضمن هذا السياق، ينسجم مع الحال التي كان عليها، فالمرسيكيون هم أولئك المسلمون الأندلسيون الذين قهرتْهم دورة القدر، فقضت عليهم بالهجرة، بل قضت عليهم بأن يكونوا آخر من يغادر الديار طُرداء لا ملجأ لهم، إلا قاع البحر، حيث ستأتي عليهم الأمواج والحيتان: "وبكت النوارسُ واهتاجت الأمواج!".
لا ريب أنه تصريحٌ بتجربة التمسّح بالمقامات والمشاهد ومثابات التعزية التي يكون الأنصاري قد خاضها وهو يناضل ضد أشباح الشؤم، ويتداوى بعقاقير الروح وتشفعات أهل الكرامات، بمن فيهم العاكف فتح الله..
لقد كان واضحا أنه هب من موطنه، وطار إلى حمى زُهَّاد النور ينشد الحماية والاستجارة والاستظلال بوارف نفحاتهم، ولقد رابط عندهم يستعيذ بالكرامات، وأثناء ذلك لم ينقطع عنه هو أيضا بكاؤه، فمِن شأن مجاورة أهل الحال أن تَجعل ينابيع الروح تتفجّر.
وتأبى صورة الشجى في الوجدان إلا أن تستحيي معالم الحزن الدفين الذي تمثله نكبات التاريخ في كل من الأندلس الفقيدة وإسطنبول التي ضيعت تاجها بضياع الخلافة منها.. لم يعد حس التقارب بين إسطنبول المتجددة وبين المغرب، يتم افتراضا في ذهن الأنصاري فحسب، بل لقد بات التواصل العملي والروحي بين الصعيدين حقيقة يعيشها الأنصاري، ويجد فيها شيئا غير قليل من دواعي التنفيس، بل لقد بات التقارب بين القارات من آيات التبشير بحلول زمنِ تجدّد الزحف الذي سيطوي البسيطة ويوصل رسالة الله الخالدة إلى العالمين.
إن الجغرافية بفضل ما توفر للإنسانية اليوم من إمكانات الاتصال، قد تقهقرت وقهرت المسافات والأبعاد المكانية الفاصلة بين الأنحاء والأقوام، لينتعش التاريخ في ضوء هذا التطور الذي حقق حلم طيّ الأرض وجعل العالم قرية واحدة ينتقل المرء بين قاراتها كما ينتقل بين أحيائها، والوعي بهذه الحقيقة هو ما يهب للأنصاري بعض ما يلطّف من محنته، إذ أن التطوّر بات يكفل للأنصاري أن يطير بجناحه تارة أخرى، إلى أرض الأنوار. ويحل بإسطنبول: "هذه إسطنبول مرة أخرى..! ناداني خاطرٌ حزين! قال لي: مقامك حيث أقامك! لا مكان لك اليوم يا صاح إلا بمنـزلة الاستغفار! فصرتُ أسمع صوتا من أعماق فؤادي، يتكسّر موجُه هوناً على شطّ لساني: رب اغفر لي..! رب اغفر لي.."! ويروي ظروف نزوله بها: "ها أنا ذا محمول على سيارة، كنت مريضا جِدّاً! لكني كنت على وعي بما أسمع وأشاهد.. كل شيء أدركه الآن، هذه الطريق الكبرى وسط إسطنبول، وهذه قبابها ومآذنها عن اليمين وعن الشمائل، تلقي بأنوارها في كل اتجاه.. وهذا هو الجسر العظيم، هو جسر نُصِبَ حديثاً، لكنه منصوب على تاريخ الفتوح بين آسيا وأوروبا! فلم يزل بعد ذلك قنطرةً لعبور النور الجديد إلى المستقبل! وهذا... آهٍ! هذا مستشفى "سماء" مرة أخرى!.. وهنا أدركتُ للتوّ مقامي! وعرفتُ أنني قد أخفقت في الامتحان الأول! فاستأنفت دروسي بفصول المدرسة الأيّوبية من جديد!".
فمن خلال هذه السياقات التي يرتد بها الخطاب إلى الذات، تطفو الشجون، فنقرأ تقاطيع من السيرة الذاتية للكاتب، وتحديدا نقرأ يوميات عاشها في إسطنبول، أثناء مرحلة الاعتلال واليأس والغروب: "كان رأس السرير ميمما نحو القبلة، وكانت النوافذ الكبيرة مشرعة الأحضان على بحر مَرْمَرَة، والْجُزُرُ الخَمْسُ وَسَطَهُ كلها تنتصب أمامي كالأعلام.. كانت الشمس على وشك الغروب خلف قَدَمَيَّ، وكانت أشعتها تطرّز مَرْمَرَةَ بمرثية الأشجان! وترسل إليَّ أهازيج من أذكار المساء، مُرَتَّلَةً عبر أوراق شجرة الدُّلْب المنتصبة خلف نافذتي! حتى إذا مات النهار شاهدتُ جنازتي ترتفع أمامي في أفق البحر الغارب، وتذكرتُ صلاتي! أدَّيْتُ العشاءين جمعاً وقصراً؛ استباقا للحظة الوصل، ثم بكيتُ! كان الليل قد أشرقتْ مواجيدُه سُرُجاً تتلألأ في جزر البحر، وكانت مصابيح الساحل تحلم خافقة بشيء ما.. وغمرني الحنين إلى أورادي، فما أن شرعتُ في ترتيل مواجعها، حتى انهمرت على قفاي صفعاتُ الرحمة تَتْرى! هي رحمة نعم لكنها صفعات! وكان الألم يا سادتي شديداً!". هكذا تترجح كفّة اليأس، ويتحدد الطريق المفضي إلى الاستسلام.
ولما كان الخطاب يتسع إلى أكثر من منحى دلالي، أمكننا القول بيسر إن السارد -وفي سياقات عدة- كان يتحدث عن نفسه ويتحدث في الوقت ذاته عن الأمة المُصابة في مقاتلها، الباحثة عن الحياة وعن الشفيع والمنقذ. وفي غضون ذلك كله لا يَفتأ اللاشعور ينعي للكاتب ذاتَه من خلال مساقات وبَوحيات سرديّة: "سنة كاملة يا سادتي وأنا أجري بين غروب وشروق! سنة كاملة وأنا أظن أني كنت أغسل أدران الروح عن بدني، ولكني اكتشفت الآن أنني لم أبرح مكاني! فعدت مثقلا بكل ذنوبي! لقد أخطأت الطريق إذن! فكان الحكم أن أعيد الدرس من البداية! فالرحمةَ الرحمةَ يا الله!".
وارث السرّ
والرواية عند هذا المستوى من التسديد، تصطنع مقطعا إنشاديا توظفه على هيئة لازمة وقفل، يتردد في أعطاف النص أكثر من مرة، تُحيل فيه إلى مقام الإمام فتح الله، باعتباره بانِي الجسر نحو المستقبل، والوريث الروحي لتاج الصالحين: "فَتْحُ اللهِ لَدَيْهِ سِرٌّ تنتظره الدنيا، لكن لا يخبر به أحداً!.. فَتْحُ اللهِ يحمل في قلبه ما لا طاقة له به؛ ولذلك لم يزل يبكي؛ حتى احتار الدمعُ لِمَأْتَمِهِ! فَتْحُ اللهِ وارثُ سِرٍّ، لو وَرِثَهُ الجبل العالي؛ لانهدَّ الصخر من أعلى قمته، ولَخَرَّتْ أركانُ قواعدِه رَهَباً!". وتنوء اللغة المستخدمة بشحنات من الأسى، ومن الرهق وأعباء الكآبة المضمرة في الروح، فيأتي السجل حافلا بمفردات الولع وعبارات النواح.
إن حلوله في أروقة المستشفى-آخِر أصعدة النجاة أو الهلاك- ومواجهة الواقع غير المبشر، يفجر منابع الألم فيه. ومع ذلك يتقوى الأمل والتشبث بالبقاء.
هو نزيل "المدرسة الأيّوبية"، ولئن كتب الأنصاري عن فتح الله وهو على تلك الحال من الابتلاء، فلأن فتح الله هو عَيِّنة أيّوبية مُكبَّرَة، تعاني من اعتلالات أشدّ إزمانا: "وحدة، واغتراب، وانهماك في شق الدرب أمام الأمة، وإدامة المجاهدة على أصعدة الروح والخطة".
ولقد بذل الخطاب من جهود التورية وإخفاء العواطف، ما جعل المنحى السردي العام، يفْلح في تخطي مساحات الاستدراج والإغراء التي ظل الموضوع يضعها في طريق الكاتب، لاسيما والنفس معبأة بمشاعر الفجيعة، فهي من ثمة في مسيس الحاجة إلى تركيز وجهة الإعراب والتفريغ على ذاتها وشجونها الشخصية. ولذلك نجد أحيانا التورية تصطنع الخطاب اصطناعات بديعية وجناسية، إذ لا نَنْسى أن الأنصاري أحد فحول القريض، فاختزال العواطف وتسويقها في الصِّيغ المكتنزة من صميم خبرته. إن قوله مثلا: "غمرني الحنين إلى أورادي..". يغطي على مضمر سردي هو: "غمرني الحنين إلى أولادي".
وفي مَشْفى سماء السماوي، يجد الأنصاري نفسه يقرأ سيمْياء المكان، ويفكك رموز الموقع والأبعاد، وتتوطّد الحميمية بينه وبين الأشياء، فهو يرجو الرحمة من كل أفق.
مواجع الروح والجسد
لقد ظلّ يَأْسى لنفسه، ولعجزه، وانقهاره عن أن يكون قادرا على التجدد، مؤهَّلا لاحتلال منـزل له في مقامات الزمان. ويتحدث عن نافذة المشفى حيث امتد سريره، ذلك لأنه يدرك أن للنافذة شأنا في ما سيكشف عنه من أخبار الداعية الإمام، كما سيرويها للقراء في سياقات روايته تلك. كانت نافذة المشفى مشرعة، لكن البحر لا يتيح له النظر إلى الأبعد، إلى العش، فالعين كانت تريد أن ترى مكناس، أن ترى العافية. في تلك الأثناء كان هناك همٌّ واحد يسكنه، أن يعرف نتائج الفحص الطبّي.
لقد اطمأن إلى هذا المرافق النوراني الذي يلازمه، بل لقد تأثر بما كان عليه من روحانية جلية، فكان حضوره معه يخفّف عنه بعض العناء، واشتدت الصلة بينهما ليس فقط لأنه كان مرافقا من طراز خاص، ولكنه إلى ذلك، كان وسيلته إلى معرفة الحقيقة، حقيقة مرضه: "سألته ماذا قال الطبيب؟ وانتفضت جوانحه بقوة لكنه لم ينْبس ببنت شفة! بيد أنني يا سادتي سمعت الكلام ينطلق متدفقا من بين جوانحه، وكأنما هو صدى لهاتف يتنـزل عليَّ من العالم العلوي!".
فالأنيس المرافق ظهر أنه من أهل الورد، وأنه من ذوي الشأن على صعيد مراتب المعراجية، بل وأنه يتبع الحمية ذاتَها التي ظل كولن ينصح بها المرشحين للمرابطة. "قال لي: جسمك مرتبك جدا يا صاح! لكنما هو رَجْعٌ كسيرٌ لصورة الروح في خابيتك الكسيرة! أما الأطباء فلهم مسالكهم إلى طينك المسنون، وأما من يسلك فيك نحو جراحات الروح.. آه! أما مَسْلَكُ الروح إلى مواجعك يا صاح...آه! ثم سكت!"
وفي كل ذلك ظل الكاتب يغترف من معين الذاتي، ويطغى لاعج الاعتلال على حبل السرد، فيجمح الخطاب ويرتد إلى حيِّز الروح، ويلوذ بالمجازية يواري بها أشياءه الصميمة المكسرة، ويهرع ينحاز إلى جوقة الأخيار، يدفن في مواجعها عويل روحه، ويستمد من الإحساس برابطة التجانس معهم الثباتَ والقوة والتماسك.
لقد ظلّ الصالحون وعلى مدى العهود، يصنعون البحيرات من دموعهم، وتلك البحيرات لا تفتأ مشرعة، و"لم تزل ترفدها منذ قديم الزمان دموع الحواريين، وأشجان الصحابة الكرام، ومكابدات النُّسَّاك المتعبدين، وزفرات أويس القرني، وبكاء الحسن البصري، وشهيق أبي العالية الرياحي، وأسرار الإمام الجنيد، وأنفاس بشر الحافي، ومواجع الحارث بن أسد المحاسبي، ومواعظ الإمام عبد القادر الجيلاني، ومجاهدات الشيخ أحمد زروق الفاسي، ومواجع عبد الواحد بن عاشر الأندلسي، ومشاهدات بديع الزمان النورسي!".
شعرية السرد
الأدبية تأخذ أحيانا سياق الأوراد، فيتلابس المضمون السردي كما تعرضه مساقات الرواية في مفتتحها، مع مضامين الذكر والأدعية المتواترة في حلقات الذاكرين. الديباجة التي ميزت مفتتح "الرواية-السيرة"، كانت بحليتها الأدبية الراجحة، وبتأنق شعرية خطابها، وتألق نبرتها، أقدر على امتصاص المشاعر والتنفيس عما في النفس من كروب المأْتَميّة.
وسنرى كيف أن السرد حين باشر التوثيق لحياة الأستاذ الإمام، قد تَخفّف من لبوس شعريته، فالتعبئة أضحت في ذلك المستوى من الرواية، تعبئة مواقع وعراكات ومآثر وقُرُبات، بحيث أضحت الرجاحة في الخطاب لعرض الأحداث، وذكر المناقب، وإحصاء مواقع الاشتباك والنـزالات التي تشكلت منها هذه السيرة الحافلة بالثمار، لأن المقام مقام استظهار مكونات هذه الملحمة وإبراز مفرداتها كما ارتسمت على شريط العمر.
شخص الأنصاري كما برز في سياق السرد، ظل يمثل الأمة في عصر الغبْن الذي سلف، حين مدت يدها للشقيق الأكبر تستدعيه وتستنجده وتحتمي به من انتهاكات الصليبيّين.
الاستخلاص
لا ريب أن وضع الأمة اليوم -زمن رجوع نكبة الاستعمار العسكري من جديد إلى أوطاننا كما وقع في العراق- لا يكاد يبتعد عن وضعها الذي كانت عليه بالأمس، فهي تبحث اليوم أيضا عن الحامي، عن شقيق أكبر يكفل لها المنعة والعزة والصون. وتركيا إذا ما أحيَتْ روحية الإسلام والحضارة، وابتعثتْ مشاعر القوامة الملّية التي تميزتْ بها الخلافة العثمانية، وإذا ما استنفرت قدراتها المادية والمعنوية، وعرفت كيف تتقرب من أشقّائها وتقربهم إليها، فستجد نفسها متأهّلة من جديد لمدّ أجنحتها وأشرعتها على جغرافية الأمة، والسير معها نحو الرفْعة والسؤدد والمشاركة في صنع التاريخ العالمي، كما كان شأن الأمة بالأمس.
إن الكتابة عن الرموز تعني الانخراط في السلك وإعلان الانتماء. والأنصاري حين أصر على أن يختتم رحلته الحياتية بتوثيق سيرة "إمام المرحلة"، فإنما شاء أن يعلن انتسابه الروحي والأدبي إلى كتائب هذا الإمام العارف بالله، العامل على ما يخدم عباد الله، ويكفل لهم سعادة الدارين.
ــــــــــــــــــــــ
(*) جامعة وهران / الجزائر
العدد: 18 (يناير- مارس) 2010
أ.د. سليمان عشراتي / تحليل كتاب
حين يخوض الأنصاري في توثيق سيرة الداعية المصلح فتح الله كولن، تكون الكتابة بالنسبة إليه استشفاءً، وتجملا، ومقاومة لكوابيس الداء العضال، واستجماعا لكل ما في المعين من بذور وفسائل عاجَلَها الرحيلُ عن أن تتفتح وتزدهر وتستوي على سوقها.
يمكن أن يقال عن هذه الرواية إنها النص الوداع، الرسالة الوصية، البيان الختامي، المتن الوديعة، بل إنها صوت احتسابي صادر عن نفس تنحني في مقام الاستسلام، وتذعن للقدر برضى، كما يقتضي الإيمان من المسلم الحق.
إنه النص الجسر الواصل بين إسطنبول ومكناس، نص حَوْلِيٌّ اختزل الأجندة، واختصر في فصوله أطوار حياة الأنصاري، من حيث شَعر الأنصاري أو لم يشعر. كتابة هذا النص هي في الأساس تنقيب في مراحل سيرة الداعية فتح الله، لكنها غدت في استطرادات عدة من متنها كتابةً عن الذات، ولا غرو أن تتلابس الأشجان، فالمرء مع من يحبّ، والروح تتعشق أن تُنَوِّهَ بشمائلها الشخصية من خلال التنويه بأشخاصِ مَنْ تتجسَّد فيهم تلك الشمائل.
الكتابة فعل احتسابي
وواضح أن الأنصاري أقبل على الكتابة وهو لا يعرف ما جنس النص الذي سيخوض في تحريره.. كل الذي يدريه أنه يُقْدِمُ على الكتابة تحت باعث قويٍّ، مكينٍ: "ربما كان هذا النص الذي أقدمه اليوم للقراء رواية، أو سيرة، أو ربما كان قصيدة، أو كتاب تاريخ.. لست أدري"..!
ومن أول وهلة يكشف لنا الكاتب عن مكان ولادة هذا النص، ويُبَيِّنُ المنازلَ التي شهدتها عملية نَماء وتشكُّل هذه الرواية، بل ونراه من خلال تقنية القطع والالتفات السرديَين، يميط اللثام عن الحال الدرامية التي تم فيها المخاض وتحقق الوضع: "إنني شرعت في تدوين ملاحمه بمستشفى "سماء" في مدينة إسطنبول العامرة سنة 2008، ثم دوّنت بعضها بعد ذلك ببيتي في مدينة مكناس بالمغرب الأقصى، ثم قُدِّرَ لي أن أختمها بعد سنة كاملة بمستشفى "سماء" مرة أخرى في مدينة إسطنبول!".
وبما أنه يكتب عن أحد أبرز أئمة الدعوة المميَّزين بالعبقرية في العصر الراهن، فلابد أن نراه يبادر إلى الكشف عن معاناة الموهوبين، إيعازا بما يلقى هذا الإمام من أنواع المكابدات، وربما إيعازا كذلك بما كان يستشعره هو أيضا من دنوّ الأجل.. فالعبقرية عطاء مُبْكِر في الحلول، مبكر في الأفول. يقول متحدثا عن فتح الله: "أيّ بلاء أشد على المرء من أن يعيش قبل أوانه، ويعاشر غير أهل زمانه؟".
لا ريب أن التواشج هنا قائم بين شخصية الكاتب وشخصية المكتوب عنه، ذلك أن الترابط بين الأنصاري وبين الداعية فتح الله كان معنويا، قَريحيّا، والتجاذب بينهما قام على أساس من انشداد الروح إلى الروح. كان الأنصاري المنحدر من أرض طفقت تصدِّر إلى الآفاق أعلاما من رجال السلوك والتأسيس الطُّرُقي، يبحث عن القطب الذي يتواثق معه على المرابطة، فاختلبته رايات الطائفة النورية، فأناخ ناقته وأخذ مجلسه من الحلقة، وانخرط رأسا في استظهار الأذكار. لقد وجد في فتح الله إمامه، وتبين فيه وراثة السر والمفتاحية.
ومن الطبيعي أن يسلس للسارد القول وتحتدم الشعرية من خلال ما يوفره له البعد المكاني الذي حلّ به، والذي تدور فيه وقائع الرواية (إسطنبول) من دواعي الإعراب. إنه فضاء حافل بالتداعيات التاريخية والمرموزية.
ومنذ البدء تجد النفس ذاتها مشتحنة بمشاعر اللوعة والجيشان، إذ هناك ما يبعث على مثل ذلك التهيج الوجداني الذي بدا وأنه -كأغوار البحر- يتلاطم من خلال مجاري العمق والتيارات الجوفية.. وهكذا تهيأ للكاتب العليل أن يعيش ومنذ ساعة هبوطه إلى تلك البقاع، حالةً متوترة من المواجهة مع التاريخ، ومن المكاشفة والإفصاح عن طاقم الفجائع الكبرى التي ما زالت أصداؤها المشؤومة تدوّي في روح الكاتب. وما أسرع ما نعرف أن كاهله ينوء بإرهاقات ثلاثة مزمنة تثوي في العمق، ثلاثة تصدعات لا تزال مفتوحة في جسد الذاكرة: هزيمة الأندلس، وضياع الخلافة، واعتقال الأقصى.
العلة الجسدية إذن تزيد أدواءُ الاعتلال المعنوي من التهابها، وذلك ما يفاقم من وضع الكاتب.
التوحد
ثم لا نلبث أن نرى الكاتب يتوحد مع شخص كولن، أو هو بالأحرى يستشعر ما كان يقرب بينهما من قواسم، فكلاهما على وعي متفجر بمواقع الداء منه، وكلاهما قضى عليه القدر والألمعية أن تستغرقه رحلةُ البكاء.
الداء يمتطي صهوت كولن فينوح، وداء آخر يسحق كينونة الأنصاري فلا يملك سوى أن يبكي هو أيضا، وفي الحالين يبقى الأمل والعزيمة وحدهما مناط هبوب نسيمات الرجاء في استعادة السلامة والعافية والتجدد: "رجلٌ وحده يسمع أنينَ الأسوار القديمة، ونشيجَ الريح الراحل ما بين طنجة وجكارتا! وبكاءَ النورس عند شواطئَ غادرتها سفنُ الأحبة منذ زمان غابر، ولكن لم يشرق لعودتهم بَعْدُ شِرَاعٌ!.. فيبكي"!
وتصرّ السردية على أن تعمق هذا الملمح الاحتراقي البارز في شخصية كولن، فتضيف: "رجلٌ وحده يسمع صهيلَ الخيل القادمة من خلف السُّحُبِ، ونداءَ الغيبِ المحتجِبِ، إذ يتدفق هاتفه على شاطئ صدره، فينادي مِنْ عَلَى منبره: ألاَ يا خيلَ الله اركبي!.. ويا سيوف البرق الْتَهِبِي!.. ويَرَى ما ليس يُرَى.. فيبكي!".
وتلتفت السردية تارة أخرى إلى استقراء رمزية اسم "البطل" فتراها رمزية تحمل في دلالتها معاني البشرى التي أناط القدر بالداعية الإمام مهمة زرع فسائلها وملء الحقول من حواليه بها: "فتح الله سيرةُ بكاء! لقبه الأسري: "كُولَنْ"، ومعناه "الضحاك" باللسان التركي، وهذا من عجائب الأضداد، ومن غرائب الموافقات أيضا! فهو بَكَّاءُ الصالحين في هذا العصر، لكنه ما بكى إلا ليضحك الزمان الجديد، وليزهر الربيع في حدائق الأطفال. ما رأيت أحدا أجرى دمعا منه، ولا أكثر وَلَهًا.. وكأنما دموع التاريخ جميعا تفجرتْ أنهارها من بين جفنيه!".
كولن والنورسي
بل إن الرواية لتجعل من صفة البكاء التي يتميز بها كُولن مَجْلًى مُشَخِّصاً لمهمة الافتداء والعطاء التي نذر نفسه لها، حين اختار أن يسلك للحياة سبيل التنسك والانقطاع إلى الخدمة وبذل الصالحات. كولن مثل الأستاذ النورسي، ومثل قطاع متميز من أهل الله، عاشوا كينونتهم في صيام وقيام، إذ قدَّروا أن لا وقت لديهم ينفقونه في غير ما يحقق معنى الكمال الإنساني الذي به تتحقق الاستخلافية، استخلافية الإنسان في الأرض.
فالبكاء -حسب قول السارد- هو مجرد عنوان حالي لملاحم من جليل الرهانات التي اجتازها كولن عبر حياته ومنذ الميعة: "ولقد أخطأ من ظنه يبكي ضعفًا أو خَوَرًا! وإنما هو جَبَلٌ تشققت أحجاره عن كوثر الحياة الفياض؛ فبكى! الوعظ سر من أسرار فتح الله! فلم يزل منذ طفولته يبكي بمجالسه؛ فتبكي لبكائه كل عصافير الدنيا! ولقد رأيته يبكي طفلاً وشابا، ثم كهلاً وشيخا! ولم يزل يبكي ويبكي.. وما جفّ لتدفّق شلالاته نَبْعٌ! بدموع مواعظه الْحَرَّى سقى فتحُ الله كل غابات بلاد الأناضول! وبها أروى عطش الخيل، وأطعم فقراء الليل! وبوابلِ بوارقها سقى كل صحارَى العالم! ولقد عجبتُ من أي جبال الدنيا تخرج منابعه؟".
ومن البيِّن أن الكاتب -وهو يستعرض ملامح المعاناة التي عليها فتح الله- كان يجد مجالا لترجمة كثير مما بنفسه هو من ذعر واندحار ومصابرة.. فالبطولة السردية في مطلع الرواية تنحو منحى تَشارُكِياً، بحيث نحسّ أن شخصية الأنصاري وشخصية الإمام فتح الله تتقاسمان أو تبادلان دور الحضور بصورة طبيعية، وذلك بحكم ما يقوم في روح الأنصاري من إكبار ومحبة لشخص الإمام، جعله يقرأ مساحة من همومه هو في خريطة هموم وأرزاء الإمام. فحِسُّ البيعة والتبعية جليّ في الخطاب، إذ العلاقة التي تربطه بفتح الله هي علاقة المريد بشيخه، والجندي بقائده، والابن بأبيه.
هنا يقع نوع من التطابق بين وضع السارد ووضع المسرود له، من حيث وحدة وطبيعة المقاومة التي يقتضيها مطمح الانتصار في المعركة الحسية والمعنوية، على الرغم من انبثاق إشارات متواترة تكشف أن أولوية الحسم بالنسبة للأنصاري في تلك المعركة، إنما هي الصمود والتغلّب على العلة الجسدية، إذ كانت هي "النازلة" التي تقف حاجزا أمام ما كان يأمل أن يكون له من بلاء.
ويقع التطابق المسلكي بينهما كذلك، اعتبارا لما كان يرشّح له الأنصاري نفسه في المحنة التي يمر بها، من حيث وجوب السير على خطى شيخه، فيمضي على نهج من التماسك، والتجرد، والتعالي عن الوهن، والتواري عن الأضواء؛ فالاقتداء بأهل الريادة و"النموذجية" يعني أن نتعلم كيف نتَـلَقَّي السهام بسنّ ضاحك، ووجه طلق، وملامح تخفي طعاناتها وراء خطوط من الاستبشار.
في إسطنبول
أبحر الأنصاري إلى إسطنبول على أمل الشفاء، وحل بتلك الحاضرة ذات الماضي المجيد، وألقى بنفسه على ذات الموج الذي عبر فوقه سائر الفاتحين: "هنا إسطنبول.. هنا معبر الفاتحين إلى كل أدغال العالَم!.. ما إن دخلتُ بين مآذنها حتى انتشى قلبي أملاً! لكنني لـمّا اقتربت من جِسْرِ البُوسْفُورِ مَسَّنِي فَزَعٌ!.. كانت النوارسُ تضج في الفضاء بشكل مثير على غير عادتها..! فلَم أَدْرِ أَعُرْسٌ هو أم محض عويل؟.. ومن يدري؟".
أجل وإنه لحق قول الله عز وجل ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾(لقمان:34).
تُرى هل أحس الأنصاري وهو يعبر الجسر، بالنذر ترشقه بسهامها الرعناء؟ هل دَرَى -هو الباحث عن الأسرار- أن رحلته إلى عالم الآخرة ستكون من صدد ذلك الأفق الذي حل به، في مشفى السماء حيال البحر، وأن الجزر الخمس زينة ذلك العرض الفردوسي، ستكون هي المحطة النهائية التي سينتهي عندها نظره في سعي منه أن يخترق الحجب صوب الأندلس الفقيدة، وصوب المغرب البعيد، حيث الأحبّة، وحيث يمتد الجناح الآخر من الوطن الملّي..
مهيض الجناح هو بعرض البحر، لا يقدر على حراك، ولا يتأهّل لتحدّ.
مشهد الجسر الرابط بين آسيا وأوروبا، والذي عبره الأنصاري وهو ينـزل بلاد النور، كانت دلالته حادة في شعوره، وعنوانًا على قرب الاجتياز، وشارة منذرة بقرب انتهاء الرحلة وطي الكتاب.
ويحاول الأنصاري أن يستمد السلوى في ليل الوحشة والبعد عن الأهل من هبوب نسمات الحلم.. فالحلم هو حقيبة البشائر التي يلقي بها أمامنا الأملُ حين يلفنا الموت الأصغر، وهكذا رأى الأنصاري نفسه يَطعم عسلا، ورأى أسراب النحل تعتصر الرحيق من مآقي شيخه الإمام.. وواضح أن الدلالة الاقتضائية تومئ هنا إلى ما كان يتبَرْعم في روح الأنصاري من أمل بنيل الحاجة، والأوبة إلى وطنه محمَّلا بالمغانم.
بل إن للنحل والعسل -هنا- دلالة مناطة بمطمح الشفاء الحقيقي والمجازي الذي ينشده الأنصاري بَلْسما لمرضه الحسّي، ومرض الأمة المعنوي.
من جهة أخرى نراه يسترفد للحالة التي تطبق عليه بعتامتها بيتا للمعري:
أَبَكَتْ تِلْكُمُ الْحَمَامَةُ أَمْ غَـ * * * ـنَّتْ عَلَى فَرْعِ غُصْنِهَا الْمَيَّادِ..؟
فالشعر في حال انهدار المعنويات، له دور السند على كل حال، وواضح أن الأنصاري، ومن خلال تسويق هذا الشاهد الشعري، يرسم صورة للوجود، ليس كرؤية شك وحيرة وعدم إذعان، وإنما كحسرة على الأفول العاجل وحُرقة على المغادرة المبكرة.
سماء الأمل
إنه يعيش مفصلا دقيقا، بل متصدعا من عمره، لا تفتأ النفس تبحث فيه عن مسرب للانفلات من تحت الأنقاض، وإنّ وقْعَ ذلك الوضع المتأزم ليتردد دويه العنيف في أوصال الخطاب: "..لِزَمَانِ التحولاتِ وَقْعُ الزلازلِ على المنَازِل"!
النفس تظلّلها آناءات من الأمل وأخرى من اليأس، وتلك هي حال من تكون إصابته ضاربة في الأغوار، فحيال جثوم الحسرة على القلب، لا يسع الخطاب إلا أن يراوح بين محطتي الأمل واليأس، إذ لا تملك النفس إلا أن تلازم تلك الكوة الصغيرة المطلة على سماء الأمل تتطلع منها، لكن مسلسل الانهيارات يستمر دويُّه، ويستمر شريط الصور القاتمة يلف الحس بحَبْل الكآبة، يلتمع حينا، ويرتد إلى دكنته حينا آخر، فيطول العناء، ويتزايد حجم التمزقات: "كانت الأرض تدور بمنـزلة ذات طبيعة أخرى، تتداخل فيها الشعاعات بين غروب وشروق!".
واضح أن سياقات المدخل لبثت تومض باللون الأحمر، لون الخطر، معلنة عن تكدر الأفق ببوادر حُدادية، بحيث إن مفردات الخطاب ذاتها تعكس شيئا من برودة المدافن، وارتجاف القلوب المقهورة: "وكانت الريح تقصف ببرد قارس! وأسرابُ الحمام والنوارس تطير هاربة، لتحتمي من صقيعها تحت أضلاع المآذن والقباب!".
إن الحماية هنا مطلب ملحّ، يَخُصُّ الأنصاري، وإن مناط هذه الحماية بالنسبة إليه هو الاعتصام بالمآذن والقباب. خطاب الرواية في هذا الشطر من التوطئة يفصح عن كثير من المضْمَرات الروحية، ربما غير المدركة حتى من قبل الكاتب نفسه، والتي تعبر عن تعمّق حس الاستشفاع لديه.
إن مطلب الاحتماء يظهر ملموسا في ثنايا الخطاب، ومن خلال إيعازات واضحة. ولقد طفقت الأدبية وهي تسرد موضوعها، تلَوِّنُ المساقات بلون النفس وغبش جوها الصقيعي. هناك إفراغ وجداني تَهيّأ للأنصاري في مدخل الرواية، فاسترسل يغترف من عدة شاعريته، ويصوغ ألحانا فيها نبرة حزن معلنة. بل إن العبارات أحيانا لَتعكس في حدَّتها وجنائزيتها صورة الانتكاس، والانقباض، والانطواء على الذات، والانتظار المؤذي، والتطلّع إلى اليد التي تمسح على الجسد بأنامل بَلْسمية تزرع العافية.. هذه هي نوعية الأصداء التي تنتهي إلى حس القارئ وهو يتابع مطلع الرواية.
ألم الميلاد
ولأن الأنصاري روحاني بِجِبِلَّته وعميق إيمانه، متمرّس بتلقي الإشارات وعَقْدِ نِيّاتِ الاستخارة، فقد أمْكنَهُ -كما تخبر الرواية- أن يقرأ في ما تلقاه من واردات أن النورسي يحيله إلى صاحب الزمان الذي سيتمكّن من أن يجد لديه حاجته ويحصِّل بغيته: "أما علمتَ أنَّ لكل زمان صاحبَه؟".
ولا يسع الأنصاري إلا أن يستوثق ليعرف من هو "صاحب الزمان"، فيأتي رد النورسي مفصل الإشارات والدلالات، إذ قال: "ويحك يا صاح! أما صاحب هذا الزمان فله مولدان اثنان! أولهما هو في المكان، وقد كان الذي كان؛ وأما الثاني فإنما هو في الزمان! فَارْتَقِبْ إبَّانَ هيجانِ الجرح، يومَ تأتي الرياح بحداء الأنين! فإنه لا ميلاد إلا بألم! واظفر بثاني المولدين تَرِبَتْ يداك! إنك يا ولدي إن تدرك إشراقتَه تكن من الفاتحين!".
ويفلت منه سؤال معرفة المصير: "قلت: فهل لي أن أكون من طلائعهم؟"
وواضح أنه بهذا السؤال يُصِرُّ على أن يكون واحدا منهم، بل أن يكون طليعة الطليعة، لأن في ذلك الموقع المتقدم تتحقق له الحياة الحق. إن المؤمن لا يرهبه الموت عندما تكون المزاحفة هي الطريقَ إلى الهدف، إنما الموت الذي يقهر المؤمن هو الموت خارج ميدان المعركة، إن توقّف المسلم عن الزحف بشتى أنواعه التعميرية والدعوية، يُعَدُّ بطالة قاتلة، حيث تكلّ أسباب الصمود، وتتراجع إرادة المغالبة. ولقد عبّر سيدنا خالد بن الوليد عما يجده المؤمن من وطْأة وغبن جرَّاء انتظار الموت على فراش العلة: "ها أناذا أنفَقُ في فراش الـسلولية كما ينفَقُ العير في المراح.. فلا نامت أعين الجبناء".
إن انتظار الأجل يتحول عند المبْتلين إلى حالة من الإنهاك الكابوسي الذريع، أشبه بواقعه عدوان غاشم يستولي على الحمى بلا مقدمات.
رمزية الأشياء
ولقد تبطّن خطاب الرواية بإيعازات ورموز تنفتح دلالتها على التفاؤل. ولا غرو أن يكون الأمر كذلك، فإن وازع المقاومة يجد في استدعاء معاني البِشْر والتفاؤل، وفي اللوذ بحُرمة المقدسات، ما يلبّي شيئا من حاجة النفس إلى الإسناد والثبات. ويمكن -في هذا الصدد- أن نرى في تواتر لفظ الحمام وجها من هذه الصمودية التي تقتضيها منا الأوضاع الصعبة. إن لفظ الحمام يتردد في هذا المدخل بكل ما يومئ إليه من رمزية ودلالة تجسّد مطلب البحث عن المنَعة والخلاص والتواصل والسلام. إن في مدلول لفظ الحمام إحالة إلى محيط الأشواق التي تمور في أعماق الكاتب، البعيد عن الأهل، والمقيّد بالأثقال.
إن الخطاب يشتحن بمحمول دلالي موضوعي ينساق في الوجهة التي تتوخى الرواية أن تسلكها، وهي تدوين سيرة الإمام، وهذا المحمول الدلالي الموضوعي يلابسه محمول دلالي آخر ذاتي، لا يفتأ يعترض السياقات، لينفّس عن لواعج النفس، وفي كلا الحالين يظل السياق يعرب عن تفاؤل ينسجم مع طبيعة المؤمن الذي -بفضل إيمانه- يستمد رحمة الله من صميم تعاليم عقيدته: "ارْفع رأسك قليلا نحو الأفق الأعلى؛ تَرَ شمس البشرى ترتفع الهوينى من خلف الأحزان، وتَرَ كلمات النور الأولى ترسم بين يديها قوس قزح، وتطرّز على موج البحر نبوءَتها.. فإذا كنتَ ممن يحسن لغة الماء فاقرأ: تُفْتَحُ القسطنطينيةُ أوَّلاً ثم تُفتح روميةُ!؟".
وحين يشير الخطاب إلى نص الحديث "تفتح القسطنطينيةُ أولا ثم تفتح رومية"، فإن مدلول الفتح هنا يوعز بالبعد التأييدي الذي تفيض به جوانح الأنصاري حيالَ مشروع الدعوة والتأسيس الذي ينهض به الفاتحون، ويوعز في الآن ذاته إلى المطلب الخلاصي الذي يتطلع إليه الكاتب، إذ من العقيدة ونصوصها، لاسيما من تنبّؤاتها المستقبلية (المآلية) ومبشراتها المصيرية يستلهم الأنصاري في محنته الألطاف الإلهية. فالكاتب لا يفتأ -على هذا النحو الخطابي المتراسل- يستنـزل الرحمات الإلهية، إذ لا ييأس من أن رحمة الله قريبة منه، وأنها ستتخطّى به ذلك الصعيد الحالك للمحنة التي حلّت به.
وكما رتّب القدر للإمام فتح الله موعد ولادة ثانية قد بدأَت علاماتها تلوح في الأفق من خلال الإنجازات الميدانية، فكذلك بات رهان الأنصاري يتركز على ما سيتحقق له من مولد ثانٍ مُرتجى، مولد الانبعاث وعودة العافية إلى الجسد المخترَق بالداء. والسياق الحواري يسدّد نحو نقطة حاسمة، مركزية، يريد الأنصاري من خلالها أن يعرف هل يُكتب له أن يكون من طلائع هذا الزحف الذي شرعت كتائب الفتح تنتشر في الآفاق. إنه في ذلك الموقف المشوش، يُشبه وضع موسى عليه السلام مع فتاه في قصة العبد الصالح. لقد تقاطعت في وجدانه صورة موسى عليه السلام مع فتاه، وصورته هو مع مرافقه الذي يرعاه ويسهر على خدمته: "قلت لفتاي: ويحك يا ولدي! ذلك ما كنا نَبْغ..".
هكذا يستدعي السرد مقامات الارتحال والضرب في الأرض كما جسّدتها الرموز ممن حازوا مرتبة العبْدية على معابر من نار العبودية والتمحيص. فالإحالة السردية هنا تستحضر قصة العبد الصالح مع فتاه، في سفَرهما الخارق، وتحيل إلى تجربة التمحيص التي كشفت -في جملة ما كشفت- عن تلك المشاقّ التي تَعْرِضُ لمن يراهن على تحصيل السر، والظفر بالحقيقة.
وطبيعي أن التماثل بين فتى موسى والأنصاري تماثُلٌ في المقصدية، إذ إن مطلب الأنصاري في سفره أن ينفذ إلى برزخ التجدد، فيغْنَم من رحلته تلك، ويعود إلى وطنه معافى، وصاحب حاجة، وجنْديّا قد تم إدماجه في المفرزة، عن جدارة واستحقاق: "ثم مكثت عاما كاملا بعد تلك المشاهَدات! أنتظر المزيد ولا من مزيد! ورجعتُ إلى وطني أنتظر الإذن بالرحيل مرة أخرى إلى بلاد النور!".
عودة إلى الديار المغربية
وتومئ القصة إلى بعض أطوار تلك السنة التي قضاها الأنصاري في المغرب، يتصيد الانبثاقات الفجرية من هذا الصدد وذاك، وكل شيء من حوله يذكّره بفواجع التاريخ، فالنفس المروّعة لا تَقرأ في الأفق إلا ما يتساوق مع انكسافها: "ما بين طنجة وجبل طارق، يَرْقُدُ بوغاز الأحزان!.. لم تزل نوارسُه كلَّ مساء تحكي بنشيجها الشجي مأساةَ الموريسكيين".
وطبيعي أن تأتي اللوحة مفعمة بمعاني النعي والرثاء والقشعريرة والهيجان الشعوري العارم: "كنتُ أسير حافي القدمين ما بين طنجة وتطوان؛ لعلي ألتقط صوتَ حمام زاجل، قيل لي: إنه لم يزل ههنا مُذْ عَبَرَ أميرُ غرناطة الأخير طريداً من جنّته! فرثاه هذا الحمام الغريب بكنوز من أسرار الحكمة! قيل لي: إن له هديلا كلما انطلق شجاه اقشعرت له صخور الشاطئ! وبكَت النوارسُ واهتاجت الأمواج!".
إن انقطاع مدد التجليات عُقْمٌ وجداني لا تحتمله روح المرابط.. ومع ذلك تأْبى النفس إلا أن ترابط عند إقليم الرجاء، خلف أسوار ليلِ القنوط، متصبرة ومحتسبة، تتوقع حلول رحمة الله في كل آن.. ويتحدث الأنصاري عن مواعيد شقية كان الابتئاس يشتد فيها عليه. وتبلغ تلك المواعيد ذروتَها عند حلول المساء، والمساء كما نعرف هو مناط عذابات المفجوعين، فتنوع مشاهد النكبات تغدو هي المحطة التي ترسو عليها أرواح المنكوبين حين يحل الليل، وهي العلقم الذي يدمنون على تعاطيه في ذلك الميعاد المليء بالوحشة والزمهرير.
استحضار النكبات
وواضح أن استحضار الأنصاري لنكبة "المورسيكيين" ضمن هذا السياق، ينسجم مع الحال التي كان عليها، فالمرسيكيون هم أولئك المسلمون الأندلسيون الذين قهرتْهم دورة القدر، فقضت عليهم بالهجرة، بل قضت عليهم بأن يكونوا آخر من يغادر الديار طُرداء لا ملجأ لهم، إلا قاع البحر، حيث ستأتي عليهم الأمواج والحيتان: "وبكت النوارسُ واهتاجت الأمواج!".
لا ريب أنه تصريحٌ بتجربة التمسّح بالمقامات والمشاهد ومثابات التعزية التي يكون الأنصاري قد خاضها وهو يناضل ضد أشباح الشؤم، ويتداوى بعقاقير الروح وتشفعات أهل الكرامات، بمن فيهم العاكف فتح الله..
لقد كان واضحا أنه هب من موطنه، وطار إلى حمى زُهَّاد النور ينشد الحماية والاستجارة والاستظلال بوارف نفحاتهم، ولقد رابط عندهم يستعيذ بالكرامات، وأثناء ذلك لم ينقطع عنه هو أيضا بكاؤه، فمِن شأن مجاورة أهل الحال أن تَجعل ينابيع الروح تتفجّر.
وتأبى صورة الشجى في الوجدان إلا أن تستحيي معالم الحزن الدفين الذي تمثله نكبات التاريخ في كل من الأندلس الفقيدة وإسطنبول التي ضيعت تاجها بضياع الخلافة منها.. لم يعد حس التقارب بين إسطنبول المتجددة وبين المغرب، يتم افتراضا في ذهن الأنصاري فحسب، بل لقد بات التواصل العملي والروحي بين الصعيدين حقيقة يعيشها الأنصاري، ويجد فيها شيئا غير قليل من دواعي التنفيس، بل لقد بات التقارب بين القارات من آيات التبشير بحلول زمنِ تجدّد الزحف الذي سيطوي البسيطة ويوصل رسالة الله الخالدة إلى العالمين.
إن الجغرافية بفضل ما توفر للإنسانية اليوم من إمكانات الاتصال، قد تقهقرت وقهرت المسافات والأبعاد المكانية الفاصلة بين الأنحاء والأقوام، لينتعش التاريخ في ضوء هذا التطور الذي حقق حلم طيّ الأرض وجعل العالم قرية واحدة ينتقل المرء بين قاراتها كما ينتقل بين أحيائها، والوعي بهذه الحقيقة هو ما يهب للأنصاري بعض ما يلطّف من محنته، إذ أن التطوّر بات يكفل للأنصاري أن يطير بجناحه تارة أخرى، إلى أرض الأنوار. ويحل بإسطنبول: "هذه إسطنبول مرة أخرى..! ناداني خاطرٌ حزين! قال لي: مقامك حيث أقامك! لا مكان لك اليوم يا صاح إلا بمنـزلة الاستغفار! فصرتُ أسمع صوتا من أعماق فؤادي، يتكسّر موجُه هوناً على شطّ لساني: رب اغفر لي..! رب اغفر لي.."! ويروي ظروف نزوله بها: "ها أنا ذا محمول على سيارة، كنت مريضا جِدّاً! لكني كنت على وعي بما أسمع وأشاهد.. كل شيء أدركه الآن، هذه الطريق الكبرى وسط إسطنبول، وهذه قبابها ومآذنها عن اليمين وعن الشمائل، تلقي بأنوارها في كل اتجاه.. وهذا هو الجسر العظيم، هو جسر نُصِبَ حديثاً، لكنه منصوب على تاريخ الفتوح بين آسيا وأوروبا! فلم يزل بعد ذلك قنطرةً لعبور النور الجديد إلى المستقبل! وهذا... آهٍ! هذا مستشفى "سماء" مرة أخرى!.. وهنا أدركتُ للتوّ مقامي! وعرفتُ أنني قد أخفقت في الامتحان الأول! فاستأنفت دروسي بفصول المدرسة الأيّوبية من جديد!".
فمن خلال هذه السياقات التي يرتد بها الخطاب إلى الذات، تطفو الشجون، فنقرأ تقاطيع من السيرة الذاتية للكاتب، وتحديدا نقرأ يوميات عاشها في إسطنبول، أثناء مرحلة الاعتلال واليأس والغروب: "كان رأس السرير ميمما نحو القبلة، وكانت النوافذ الكبيرة مشرعة الأحضان على بحر مَرْمَرَة، والْجُزُرُ الخَمْسُ وَسَطَهُ كلها تنتصب أمامي كالأعلام.. كانت الشمس على وشك الغروب خلف قَدَمَيَّ، وكانت أشعتها تطرّز مَرْمَرَةَ بمرثية الأشجان! وترسل إليَّ أهازيج من أذكار المساء، مُرَتَّلَةً عبر أوراق شجرة الدُّلْب المنتصبة خلف نافذتي! حتى إذا مات النهار شاهدتُ جنازتي ترتفع أمامي في أفق البحر الغارب، وتذكرتُ صلاتي! أدَّيْتُ العشاءين جمعاً وقصراً؛ استباقا للحظة الوصل، ثم بكيتُ! كان الليل قد أشرقتْ مواجيدُه سُرُجاً تتلألأ في جزر البحر، وكانت مصابيح الساحل تحلم خافقة بشيء ما.. وغمرني الحنين إلى أورادي، فما أن شرعتُ في ترتيل مواجعها، حتى انهمرت على قفاي صفعاتُ الرحمة تَتْرى! هي رحمة نعم لكنها صفعات! وكان الألم يا سادتي شديداً!". هكذا تترجح كفّة اليأس، ويتحدد الطريق المفضي إلى الاستسلام.
ولما كان الخطاب يتسع إلى أكثر من منحى دلالي، أمكننا القول بيسر إن السارد -وفي سياقات عدة- كان يتحدث عن نفسه ويتحدث في الوقت ذاته عن الأمة المُصابة في مقاتلها، الباحثة عن الحياة وعن الشفيع والمنقذ. وفي غضون ذلك كله لا يَفتأ اللاشعور ينعي للكاتب ذاتَه من خلال مساقات وبَوحيات سرديّة: "سنة كاملة يا سادتي وأنا أجري بين غروب وشروق! سنة كاملة وأنا أظن أني كنت أغسل أدران الروح عن بدني، ولكني اكتشفت الآن أنني لم أبرح مكاني! فعدت مثقلا بكل ذنوبي! لقد أخطأت الطريق إذن! فكان الحكم أن أعيد الدرس من البداية! فالرحمةَ الرحمةَ يا الله!".
وارث السرّ
والرواية عند هذا المستوى من التسديد، تصطنع مقطعا إنشاديا توظفه على هيئة لازمة وقفل، يتردد في أعطاف النص أكثر من مرة، تُحيل فيه إلى مقام الإمام فتح الله، باعتباره بانِي الجسر نحو المستقبل، والوريث الروحي لتاج الصالحين: "فَتْحُ اللهِ لَدَيْهِ سِرٌّ تنتظره الدنيا، لكن لا يخبر به أحداً!.. فَتْحُ اللهِ يحمل في قلبه ما لا طاقة له به؛ ولذلك لم يزل يبكي؛ حتى احتار الدمعُ لِمَأْتَمِهِ! فَتْحُ اللهِ وارثُ سِرٍّ، لو وَرِثَهُ الجبل العالي؛ لانهدَّ الصخر من أعلى قمته، ولَخَرَّتْ أركانُ قواعدِه رَهَباً!". وتنوء اللغة المستخدمة بشحنات من الأسى، ومن الرهق وأعباء الكآبة المضمرة في الروح، فيأتي السجل حافلا بمفردات الولع وعبارات النواح.
إن حلوله في أروقة المستشفى-آخِر أصعدة النجاة أو الهلاك- ومواجهة الواقع غير المبشر، يفجر منابع الألم فيه. ومع ذلك يتقوى الأمل والتشبث بالبقاء.
هو نزيل "المدرسة الأيّوبية"، ولئن كتب الأنصاري عن فتح الله وهو على تلك الحال من الابتلاء، فلأن فتح الله هو عَيِّنة أيّوبية مُكبَّرَة، تعاني من اعتلالات أشدّ إزمانا: "وحدة، واغتراب، وانهماك في شق الدرب أمام الأمة، وإدامة المجاهدة على أصعدة الروح والخطة".
ولقد بذل الخطاب من جهود التورية وإخفاء العواطف، ما جعل المنحى السردي العام، يفْلح في تخطي مساحات الاستدراج والإغراء التي ظل الموضوع يضعها في طريق الكاتب، لاسيما والنفس معبأة بمشاعر الفجيعة، فهي من ثمة في مسيس الحاجة إلى تركيز وجهة الإعراب والتفريغ على ذاتها وشجونها الشخصية. ولذلك نجد أحيانا التورية تصطنع الخطاب اصطناعات بديعية وجناسية، إذ لا نَنْسى أن الأنصاري أحد فحول القريض، فاختزال العواطف وتسويقها في الصِّيغ المكتنزة من صميم خبرته. إن قوله مثلا: "غمرني الحنين إلى أورادي..". يغطي على مضمر سردي هو: "غمرني الحنين إلى أولادي".
وفي مَشْفى سماء السماوي، يجد الأنصاري نفسه يقرأ سيمْياء المكان، ويفكك رموز الموقع والأبعاد، وتتوطّد الحميمية بينه وبين الأشياء، فهو يرجو الرحمة من كل أفق.
مواجع الروح والجسد
لقد ظلّ يَأْسى لنفسه، ولعجزه، وانقهاره عن أن يكون قادرا على التجدد، مؤهَّلا لاحتلال منـزل له في مقامات الزمان. ويتحدث عن نافذة المشفى حيث امتد سريره، ذلك لأنه يدرك أن للنافذة شأنا في ما سيكشف عنه من أخبار الداعية الإمام، كما سيرويها للقراء في سياقات روايته تلك. كانت نافذة المشفى مشرعة، لكن البحر لا يتيح له النظر إلى الأبعد، إلى العش، فالعين كانت تريد أن ترى مكناس، أن ترى العافية. في تلك الأثناء كان هناك همٌّ واحد يسكنه، أن يعرف نتائج الفحص الطبّي.
لقد اطمأن إلى هذا المرافق النوراني الذي يلازمه، بل لقد تأثر بما كان عليه من روحانية جلية، فكان حضوره معه يخفّف عنه بعض العناء، واشتدت الصلة بينهما ليس فقط لأنه كان مرافقا من طراز خاص، ولكنه إلى ذلك، كان وسيلته إلى معرفة الحقيقة، حقيقة مرضه: "سألته ماذا قال الطبيب؟ وانتفضت جوانحه بقوة لكنه لم ينْبس ببنت شفة! بيد أنني يا سادتي سمعت الكلام ينطلق متدفقا من بين جوانحه، وكأنما هو صدى لهاتف يتنـزل عليَّ من العالم العلوي!".
فالأنيس المرافق ظهر أنه من أهل الورد، وأنه من ذوي الشأن على صعيد مراتب المعراجية، بل وأنه يتبع الحمية ذاتَها التي ظل كولن ينصح بها المرشحين للمرابطة. "قال لي: جسمك مرتبك جدا يا صاح! لكنما هو رَجْعٌ كسيرٌ لصورة الروح في خابيتك الكسيرة! أما الأطباء فلهم مسالكهم إلى طينك المسنون، وأما من يسلك فيك نحو جراحات الروح.. آه! أما مَسْلَكُ الروح إلى مواجعك يا صاح...آه! ثم سكت!"
وفي كل ذلك ظل الكاتب يغترف من معين الذاتي، ويطغى لاعج الاعتلال على حبل السرد، فيجمح الخطاب ويرتد إلى حيِّز الروح، ويلوذ بالمجازية يواري بها أشياءه الصميمة المكسرة، ويهرع ينحاز إلى جوقة الأخيار، يدفن في مواجعها عويل روحه، ويستمد من الإحساس برابطة التجانس معهم الثباتَ والقوة والتماسك.
لقد ظلّ الصالحون وعلى مدى العهود، يصنعون البحيرات من دموعهم، وتلك البحيرات لا تفتأ مشرعة، و"لم تزل ترفدها منذ قديم الزمان دموع الحواريين، وأشجان الصحابة الكرام، ومكابدات النُّسَّاك المتعبدين، وزفرات أويس القرني، وبكاء الحسن البصري، وشهيق أبي العالية الرياحي، وأسرار الإمام الجنيد، وأنفاس بشر الحافي، ومواجع الحارث بن أسد المحاسبي، ومواعظ الإمام عبد القادر الجيلاني، ومجاهدات الشيخ أحمد زروق الفاسي، ومواجع عبد الواحد بن عاشر الأندلسي، ومشاهدات بديع الزمان النورسي!".
شعرية السرد
الأدبية تأخذ أحيانا سياق الأوراد، فيتلابس المضمون السردي كما تعرضه مساقات الرواية في مفتتحها، مع مضامين الذكر والأدعية المتواترة في حلقات الذاكرين. الديباجة التي ميزت مفتتح "الرواية-السيرة"، كانت بحليتها الأدبية الراجحة، وبتأنق شعرية خطابها، وتألق نبرتها، أقدر على امتصاص المشاعر والتنفيس عما في النفس من كروب المأْتَميّة.
وسنرى كيف أن السرد حين باشر التوثيق لحياة الأستاذ الإمام، قد تَخفّف من لبوس شعريته، فالتعبئة أضحت في ذلك المستوى من الرواية، تعبئة مواقع وعراكات ومآثر وقُرُبات، بحيث أضحت الرجاحة في الخطاب لعرض الأحداث، وذكر المناقب، وإحصاء مواقع الاشتباك والنـزالات التي تشكلت منها هذه السيرة الحافلة بالثمار، لأن المقام مقام استظهار مكونات هذه الملحمة وإبراز مفرداتها كما ارتسمت على شريط العمر.
شخص الأنصاري كما برز في سياق السرد، ظل يمثل الأمة في عصر الغبْن الذي سلف، حين مدت يدها للشقيق الأكبر تستدعيه وتستنجده وتحتمي به من انتهاكات الصليبيّين.
الاستخلاص
لا ريب أن وضع الأمة اليوم -زمن رجوع نكبة الاستعمار العسكري من جديد إلى أوطاننا كما وقع في العراق- لا يكاد يبتعد عن وضعها الذي كانت عليه بالأمس، فهي تبحث اليوم أيضا عن الحامي، عن شقيق أكبر يكفل لها المنعة والعزة والصون. وتركيا إذا ما أحيَتْ روحية الإسلام والحضارة، وابتعثتْ مشاعر القوامة الملّية التي تميزتْ بها الخلافة العثمانية، وإذا ما استنفرت قدراتها المادية والمعنوية، وعرفت كيف تتقرب من أشقّائها وتقربهم إليها، فستجد نفسها متأهّلة من جديد لمدّ أجنحتها وأشرعتها على جغرافية الأمة، والسير معها نحو الرفْعة والسؤدد والمشاركة في صنع التاريخ العالمي، كما كان شأن الأمة بالأمس.
إن الكتابة عن الرموز تعني الانخراط في السلك وإعلان الانتماء. والأنصاري حين أصر على أن يختتم رحلته الحياتية بتوثيق سيرة "إمام المرحلة"، فإنما شاء أن يعلن انتسابه الروحي والأدبي إلى كتائب هذا الإمام العارف بالله، العامل على ما يخدم عباد الله، ويكفل لهم سعادة الدارين.
ــــــــــــــــــــــ
(*) جامعة وهران / الجزائر
الوظائف الإبلاغية والبلاغية في ترجمة “النص الإشهاري”2/2*
الوظائف الإبلاغية والبلاغية في ترجمة “النص الإشهاري”2/2*
PostDateIcon 3 يناير , 2010 | PostAuthorIcon الكاتب: المحرر
بفييش
بقلم: الدكتور يحي بعيطيش
ترجمة النص الإشهاري :إذا كانت الترجمة في النصوص العادية,تعني نقل بلاغ أو رسالة مكتوبة أو شفوية,من لغة انطلاق أو منبع إلى لغة هدف أو مصب,…إن ترجمة النص الإشهاري تعتبر نوعا جديدا من الترجمة,ازدهرت في ظل العولمةالاقتصادية,التي تميزت بصفة خاصة بهيمنة ما أصبح يعرف باقتصاد السوق,تحولت فيه شعوب العالم إلى مجتمع عالمي واحد,يسيطر عليه سوق واحد,يقوم على حرية حركة المنتوجات والسلع والخدمات وتبادل المعلومات والأفكار في جميع المجالات,دون حواجز أو حدود أو قيود بين الشعوب أو الدول.
وازداد الإقبال عليها مع التطورات التيكنولوجية الهائلة في مجال الاتصال والمعلومات,التي
تميزت بالسرعة وانضغاط المكان..
وفي ظل هذا النظام العالمي الجديد,نشأت التكتلات الاقتصادية المختلفة(المؤسسات المالية البنك الدولي ..) والمنظمات التجارية المختلفة,والشركات المتعددة الجنسيات…عرف العالم معها مرحلة جديدة من الترابط الاقتصادي والتجاري,ارتفع فيه حجم المبادلات التجارية والخدماتية بين الدول,ارتفعت معها معدلات ..
وقد استفادت الترجمة بصفة عامة من آثار ومفعول العولمة الاقتصادية,حيث أصبحت أداة من أدوات العولمة ووسيلة من وسائل التفاهم والتبادل والتقارب البشري,وازدهرت بصفة خاصة الترجمة الإشهارية,وازداد الإقبال عليها وعلا نجمها في سماء العولمة,,فلجأت الشركات والمؤسسات الدولية المختلفة إلى الإعلان الإشهاري لجلب جماهير واسعة من المستهلكين لتسويق منتوجاتها وسلعها وخدماتها,وبذلك فتح باب ترجمة النص الإشهاري على مصراعيه.
4 ـ 2 نحو نموذج تطبيقي لترجمة النص الإشهاري : بعد عرضنا للخطوط العريضة للمقاربة الوظيفة,سنحاول توضيحها وتبيين كفايتها الترجمية من خلال نصين إشهاريين: محلى ودولي
4 ـ 2 ـ 1 النص المحلي : يخص لوحة إشهارية تضم نصا مكتوبا باللغة الفرنسية,لوكالة ” جيزي ” للهواتف النقالة,وانطلاقا من المنهجية المقاربة الوظيفية المقترحة,سنمر بالخطوات التالية :
4 ـ 2 ـ 1 ـ 1 الوظائف الإبلاغية في نص الانطلاق : وهي كما توضحه اللوحة الموالية :
أ ـ المبلغ(أو المرسل) : وهو وكالة جيزي للاتصالات,ممثلة في علامتها التجارية المعروفة,وهي عبارة عن
إطار بيضوي صغير,يتموضع تحت النص في الجهة اليمنى أسفل اللوحة,اللغوي أسفل كتبت داخله عبارة
جازي بالأحرف اللاتينية وبالعربية,مع ملاحظة أن هذه الأخيرة أقل حجما من اللاتينية.
ب ـ المبلغ(أو المرسل إليه) : جمهور مستعملي الهواتف النقالة ذكورا وإناثا بصفة عامة,والشباب بصفة خاصة
ج ـ المرجع : ويتعلق بالموضوع الذي يدور حوله نص الإشهار,وهو هنا بيع بطاقة الخط “ Puce “
وهي متواجدة في أسفل اللوحة في شكل مستطيل صغير كتب عليه ” عـيـش La vie “
د ـ قناة التبليغ : لوحة إشهارية,ملصقة في موقف من مواقف حافلات النقل العمومي
هـ ـ الوضع : ويتعلق بجملة القواعد والتقنيات التي صيغ بها النسق اللغوي والإيقوني لهذا النص الإشهاري,كما سيتضح في الفقرة الموالية الخاصة بالبلاغ
و ـ البلاغ (أو الرسالة) : وتشمل كما سبق توضيحه نسقين متعاضدين ومتكاملين,هما النسق اللغوي والنسق الإيقوني,أما النسق اللغوي فيتضح من خلال :
*الشعار : وهو عبارة عن جملة مختزلة في مركب حرفي : “à vie “
* النص اللغوي : ويتجسد في هذه الجملة البسطة ” Votr ligne a désormais une validité Illimitée “
وأما النسق الإيقوني فيضم ثلاث علامات أيقونية أساسية,هي اللون الأحمر والأخضر والصورة الفوتغرافية الثابتة,تقوم كل علامة بوظيفتين متعاضدتين:إبلاغية وبلاغية,حيث أن اللون الأحمر الذي أطر به الجانب العلوي والسفلي من اللوحة الإشهارية,يقوم بوظيفة اتصالية,تهدف إلى جلب انتباه المشاهد إلى النص الإشهاري(الشعار,الرسالة,الصورة),سواءا كان قريبا أو بعيدا عنه,وكذا اللون الأخضر المجسد لصدار الشبان الأربعة,والمميز للحرف الصائت(i) في عبارة الشعار أو العبارة الأخيرة في نص الرسالة,وفي السياق نفسه تقوم الصورة الفوتغرافية بتحديد الجمهور المقصود,وهو جمهور الشباب من الجنسين.
4 ـ 2 ـ 1 ـ 2 الوظائف البلاغية في نص الانطلاق :وتتمثل في الوظيفة البلاغية المهيمنة على النص من جهة,والدلالات والإيحاءات التي شحنت بها العلامات اللغوية وغير اللغوية من جهة أخرى,وشمل في نصنا هذا الأمور التالية :
أولا : الوظيفة البلاغية المهيمنة : وتتجسد هنا في الوظيفة الاستثارية والوظيفة الجمالية,حيث ركزت الأولى
على المشاهد وحاولت التأثير عليه وتوجيهه نحو منتوجها ” بطاقة الخط ” وإقناعه بأهميتها وفائدتها,وحاولت الثانية التسلل إلى وجدانه,عن طريق جماليات النسق اللغوي والإيقوني
ثانيا : جماليات اللغة : ويمكن تلمسها في مظهرين هما : الدقة والإيجاز المجسدين في رشاقة عبارة الشعار المختزلة في مركب حرفي(Groupe prépositionnel) وفي القيد المبأر(Focalisé) الدال على الإطلاق من جهة,وتقنية الكتابة التي استثمرت تضخيم الخط في عبارة الشعار,وتضخيم العبارة الأخيرة في نص الرسالة وتبئيرها,تمييزا لها عن باقي عبارات الإرسالية الإشهارية.
ثالثا : جماليات النسق الإيقوني : وقد تجسدت في الأمور التالية :
ـ إيحاءات الألوان التي شحنت بها اللوحة الإشهارية,كاللون الأحمر الذي لا يقتصر على الوظيفة الاتصالية الإبلاغية,فقد يرمز إلى الطاقة والحيوية والتحرر,واللون الأخضر الظاهر على لباس الشبان الأربعة وعلى نقطة حرف(i),فقد يرمز إلى الرخاء والارتخاء أضف إلى ذلك أنه لون أساسي من ألوان العلم الوطني رمز السيادة الوطنية..
ـ جمالية الصورة الفوتوغرافية : وقد تميزت باختيار عنصر الشباب رمز الأمل و القوة والمستقبل,باختيار ألبسة تعكس كما مر الانتماء,والمعاصرة والانفتاح التي توحي بها سراويل “الجينز” وأحذية الرياضة ..
فضلا عن تقارب أجسادهم وترتيبها شاب فشابة فشاب فشابة..
أضف إلى ذلك جماليات الحركة المتجسدة في حركة الرؤوس والأيدي والأرجل,المعبرة عن الفرحة العرمة التي جعلتهم يطيرون فرحا لمضمون خبر الإرسالية الإشهارية.
4 ـ 2 ـ 1 ـ 3 صياغة نص الوصول : انطلاقا من المقاربة الوظيفية التي حللنا من خلالها نص الانطلاق تحليلا لغويا سيميائيا,الذي كان بمثابة جسر,يسهل علينا العبور إلى نص الوصول,خصوصا وأن الوسائط الثلاثة(الاقتصادي والثقافي والإيديولوجي) لا تطرح أي إشكال يستوجب التكييف أو التعديل,لأنه نص محلي,يقتصر فيه هنا دور المترجم على اختيار المقابلات في اللغة العربية التي تقابل نظائرها في اللغة الفرنسية,سواء تعلق الأمر بالوظائف الإبلاغية أو البلاغية التي تخص النسق اللغوي دون غيره,حيث يصاغ نص الوصول كالآتي :
الشعار : ويمكن صياغته على غرار النص الأصلي في عبارة مختزلة في مركب ظرفي :
” مـدى الحياة ” بكتابة مضخمة مماثلة لعبارة الأصل,مع تلوين
الياء والتاء باللون الأخضر.
* النص اللغوي : ويمكن تجسيده في جملة بسيطة,بمواصفاتها الكتابية في النص الأصلي تماما كما مر
في عبارة الشعار : ” خطكم يتمتع منذ الآن بصلاحية
خطكم يتمتع منذ الآن بصلاحية
غير محدودة “
ولعل ما يحسن تسجيل في هذا الصدد,هو أن ترجمة النص المحلي,
إن كانت لا تثير في الغالب أي إشكال, على مستوى النسق الإيقوني,فإنها في النص الدولي غير ذلك,إذ يتطلب الأمر تدخل الوسائط السالفة الذكر, لاسيما الوسيط الثقافي أو الإيديولوجي أو كليهما معا,فلو أن وكالة جيزي تطلعت إلى توسيع استثمارها خارج الوطن،كأن تختار على سبيل المثال بلدا عربيا خليجيا مثل الكويت أو السعودية,فإنها تضطر إلى تعديل أو تكييف كل النسق الإيقوني،ليتلاءم ويوافق ثقافة البلدين السابقين,يظهر ذلك جليا في التعديل الكبير الذي يطال الصورة الفوتغرافية,لتتلاءم مع العادات الاجتماعية السائدة,بدءا باختيار شباب ذكور دون الإناث..مرورا بطبيعة اللباس الذي يتوجب أن يكون عباءة أو إزارا أبيض وعمامة أو كوفية,وانتهاء بإظهار الفرحة العرمة بحركة معينة من اليدين أو ابتسامة عريضة على الشفتين,أو إظهار الشخص على صهوة حصان في وضعية طيران,إن أردنا نقل دلالة الصورة الإيقونية بأمانة..
4 ـ 2 ـ 2 النص الدولي : ويتعلق بنص طويل مدون في كتيب إشهاري,صادر عن مؤسسة مالية دولية هي البنك الدولي,مكتوب باللغة العربية,من المؤكد أنها ترجمة عن أصل مكتوب باللغة الإنجليزية.
وانطلاقا من المنهجية الوظيفية التي حاولنا تطبيقها فى النص الأول,ارتأينا أن نقدم بعض الملخصات لما احتوته العناوين أو الشعارات العشر لنص الكتيب,مقتصرين على ترجمة تلك الشعارات إلى اللغة الإنجليزية والفرنسية,على اعتبار أنها عتبات نصية(18) تختزل مضامين تلك النصوص وتحتويها,وذلك اجتنابا للتطويل الذي لا تحتمله هذه الدراسة.
4 ـ 2 ـ 2 ـ 1 الوظائف الإبلاغية في نص الانطلاق : تجدر الإشارة في البداية أننا نعني بنص الانطلاق هنا النص المكتوب باللغة العربية,وهي كالآتي :
أ ـ المبلغ(أو المرسل) : وهو البنك الدولي الممثل بعلامته الدولية,وهي عبارة عن مربع صغير يحمل رسما للكرة الأرضية تتقاطع فيها خطوط صفراء,تمثل خطوط الطول والعرض.
ب ـ المبلغ(أو المرسل إليه) :قطاعات كبيرة من الجماهير ومنظمات المجتمع المدني والجماعات المحلية والجمعيات والمؤسسات الاقتصادية والصناعية والتنظيمات السياسية الرسمية…في الدول الإفريقية والعالم الثالث بصفة خاصة,وبعض هذه القطاعات في المملكة المغربية بصفة عامة,على اعتبار أن الكتيب يحمل عنوان أحد فروع البنك الدولي في الرباط .
ج ـ المرجع : ويتعلق بالموضوعات التي يدور حولها نص الإشهار: التعليم ,النقل,الرعاية الصحة والاجتماعية,النقل,حماية البيئة والطبيعة,محاربة الفساد والفقر…
د ـ قناة التبليغ : كتيب صغير بحجم مقاسه 15 ⁄ 15 مكون من اثنتي عشرة صفحة ملونة وشفافة وذات نوعية ورقية رفيعة,توزع مجانا على الجماهير,في مراكز البريد والمصارف المالية والبنوك المختلفة…
يبدأ الكتيب بصفحة الغلاف الأولى : وهي تحمل العنوان أو الشعار العام للكتيب الإشهاري,مكتوب ببنط عريض,وينتهي بهذه االصفحة التي تحمل علامة البنك الدولي,وعنوان فرعه في المغرب وعنوان المقر الرئيسي في واشنطن, كما توضحه الصورتان المواليتان :
هـ ـ البلاغ (أو الرسالة) : وهو نص طويل يتوزع على اثنتي عشرة صفحة,يتقاسم كل صفحة فقرة,أو بالأحرى نصا لغويا صغيرا,تدعمه صورة فوتغرافية ملونة,بالتناوب(صورة/نص أو نص/صورة),نحاول استعراضها مرتبة كالآتي:
♦ المقدمة : تتصدرها في الصفحة الأولى صورة فوتغرافية لشاب مغربي بالزي التقليدي,تتلوها الصفحة الثانية,يتصدرها شعار عام كما توضحه الصورة :
أما ملخص نص المقدمة فيدور حول الدعاية لرسالة البنك الدولي المتمثلة في رعايته للمشاريع الكبرى التي أشرف عليها ورعاها بالخبرة والدعم المالي والاستراتيجيات الفعالة الناجحة ..فيتحدث بلغة الأرقام عن الدول التي استفادت من تلك المشاريع,وعن الأموال الضخمة التي خصصت لإنجاح مشاريع حيوية كالتعليم والصحة والنقل ومحاربة الفقر.. كما ستوضحه الشعارات العشر المجسدة لنصوص هذا الكتيب الإشهاري.
♦ النص الأول : ويخص قطاع التعليم,تبدأ صفحته الأولى بصورة فوتغرافية,تليها الصفحة الثانية,مصدرة بعتبة نص لغوي,تحمل الشعار العام مميزا بالرقم1 مكبرا ومفخما,كما توضحه الصورة.
ـ ملخص النص1 : أن البنك الدولي يمول ويرعى حاليا 157 مشروعا تعليميا في 83 بلدا من البلدان النامية,رصد لها ما يزيد عن 33 مليار دولار,منها دعم التعليم الأساسي في المغرب بقيمة 46 مليون دولار,ودعم مشروع جمعية (ألفا المغرب) لتعليم الكبار بقيمة 1.4 مليون دولار.
♦ النص الثاني : يخص الخدمات الاجتماعية الأساسية في البلدان النامية,يبدأ بنص لغوي تحمل عتبته شعارا مميزا برقم 2 مكبرا ومخما,متبوعا بصورة فوتوغرافية,كما توضحه الصورة الموالية :
ـ ملخص النص2 : كثير من المناطق في البلدان النامية محرومة من المياه الصالحة للشرب,ومن الكهرباء والنقل,ومن الخدمات الأساسية الضرورية في الحياة اليومية,إذ أن حوالي 3 مليار شخص يعيشون في دور لا تتوفر فيها أنظمة الصرف الصحي,لذا يقوم البنك الدولي بعدة مشاريع تسهم في توفير المياه الصالحة للشرب والكهرباء,و تحسين ظروف الحياة في مدن الصفيح,وشق الطرق لفك العزلة على المناطق المعزولة.
♦ النص الثالث : يخص الخدمات الصحية,يستهل صفحته الأولى بصورة,تليها الصفحة النص اللغوي بعتبة تحمل الشعار رقم 3 بالمواصفات السابقة .
ـ ملخص النص3 : يصاب يوميا 14000 شخصا بفيروس السيدا,وهو تهديد كبير للمكتسبات الاجتماعية والاقتصادية لبلدان العالم بصفة عامة,وبلدان العالم الثالث خاصة البلدان الإفريقية الفقيرة بصفة خاصة,لذا كانت مكافحة هذا الداء من أولويات البنك الدولي,حيث خصص له مبلغا بقيمة 1.6 مليار,و1 مليار دولار خاص بالبلدان الإفريقية,علاوة على تخصيص مبلغ 1.3 مليون دولار كقروض,توجه لقطاع الصحة والتغذية والسكان في البلدان النامية.
♦ النص الرابع: يتعلق هذا النص بدعم منظمات المجتمع المدني,يبدأ بعتبة نصية تحمل الشعار العام,مشفوعة بهذه الصورة الفوتغرافية :
♦ النص الخامس: يتعلق بحماية الطبيعة,كما تمثله الصورة,ويختزله شعار العتبة النصية :
♦ النص السادس : يرتبط هذا النص بدعم الزراعة وتطويرها,كما تمثله عتبة النص والصورة المرافقة لها :
♦ النص السابع : يتعلق بحماية المجتمعات من الفساد المالي,كما توضحه الصورة,ويختزله شعار العتبة النصية :
♦ النص الثامن : يرتبط بمساعدة الدول الفقيرة المديونة,كما تمثله عتبة النص والصورة المرافقة لها
♦ النص التاسع : يتعلق بمساعدة المجتمعات على التخلص من آثار مخلفات الصراعات والحروب,كما توضحه الصورة,ويختزله شعار العتبة النصية :
♦ النص العاشر : يرتبط بمساعدة الفقراء,كما تختزله عبارة عتبة النص,والصورة المرافقة لها :
4 ـ 2 ـ 2 ـ 2 الوظائف البلاغية في نص الانطلاق : وهي جملة الوظائف التي نستخلصها من الوظيفة البلاغية المهيمنة على البنية الكبرى للنص ببناه أو نصوصه الصغرى السالفة الذكر من جهة,والدلالات والإيحاءات التي شحنت بها العلامات اللغوية وغير اللغوية المشكلة لتلك النصوص من جهة أخرى,وتشمل في نصنا هذا الأمور التالية :
أولا : الوظيفة البلاغية المهيمنة : وتتجسد هنا في الوظيفة الاستثارية والوظيفة الجمالية,الموظفتين أساسا لخدمة الوظيفة التعبيرية التي نجدها مهيمنة على النص من بدايته إلى نهايته,يظهر ذلك جليا في تركيز النص على تجميل صورة البنك الدولي,وإظهاره بصورة المؤسسة الخيرية,فهو المهدي المنتظر الذي جاء ليزرع
قيم الخير والعدل والأمن في العالم,يحارب الجهل والفقر والمرض ويشق الطرقات ويفجر الأرض أنهارا ويحولها إلى جنة أرضية..
تلك هي الدعاية التي حاول من خلالها البنك الدولي إقناع المتلقي أو قارئ هذا الكتيب وتوجيهه نحو شعاراته البراقة,في محاولة جادة للتسلل إلى وجدانه,من أجل إقناعه بها وإغرائه,متوسلا بجماليات النسق اللغوي والإيقوني.
ثانيا : جماليات اللغة :ويمكن تلمسها في النسيج التركيبي والطباعي للنصوص العشرة,يتميز أولهما بجمل وعبارات قصيرة مكثفة,تتشابك وتتلاحم مكونة لغة مصرفية متخصصة,لا تقتصر على مخاطبة القارئ بأرقام دقيقة واقعية,وإنما لها قوة رمزية إيحائية؛فاختيار الرقم أو العدد 10 لم يكن من قبيل الصدفة,وإنما هو من قبيل الرمز الذي يشحن الإرسالية الإشهارية بشحنة ثقافية دينية ترجع بنا إلى الوصايا العشر في الديانة اليهودية.
ويسند هذه اللغة تقنيات طباعية تعتمد على إبراز وتضخيم أرقام العتبات النصية وترتيبها,فضلا عن تضخيم عبارات الشعارات تمييزا لها عن عبارات النص,مع تبئير بعض التراكيب بلون مغاير,كما في عبارة العنوان العام,حيث ميزت عبارة البنك الدولي بلون أصفر,وضخمت كلمة ” التغير ” في بداية شعار المقدمة,وعبارة
” البنك الدولي ” في نهايته.
ويسند هذه اللغة تقنيات طباعية تعتمد على إبراز وتضخيم أرقام العتبات النصية وترتيبها,فضلا عن تضخيم عبارات الشعارات تمييزا لها عن عبارات النص,مع تبئير بعض التراكيب بلون مغاير,كما في عبارة العنوان العام,حيث ميزت عبارة البنك الدولي بلون أصفر,وضخمت كلمة ” التغير ” في بداية شعار المقدمة,وعبارة
” البنك الدولي ” في نهايته.
ثالثا : جماليات النسق الإيقوني : وقد تجسدت في الأمور التالية :
ـ جمالية الصور الفوتوغرافية : وتتمثل في العناية الفائقة في اختيار صور فوتغرافية تعكس بقوة المقاصد الإبلاغية من جهة,مع إضفاء مسحة جمالية فنية من جهة أخرى,يظهر ذلك جليا في صور الكتيب كلها , من ذلك على سبيل التمثيل لا التفصيل الذي لايسمح به المقام,صورة المقدمة التي اختير لها وجه شاب مغربي ينساب ماء الشباب من تقاطيع وجهه,ويلوح السرور من بسمته الهادئة ونظرته الوديعة,فضلا عن الاتساق بين لون بشرته والكوفية التقليدية التي يغطي بها رأسه,أو صورة المنظر الطبيعي الخلاب بخضرة نباته وأشجاره,تدفق شلالاته في في بداية النص الخامس…
ـ إيحاءات الألوان : وتتمثل في توظيف تقنية التلاعب بالألوان,إذ لا يمكن التحدث عن الجمال بمعزل عن
الألوان,سواء تعلق الأمر بألوان الصورة نفسها أو الألوان الأساسية المصاحبة لها,وفي هذا الصدد يمكن أن نذكر على سبيل التمثيل لا الحصر: اللون القمحي لبشرة الشاب المغربي في صورة المقدمة,وانسجامها مع غطاء الرأس المزركش باللون البنفسجي والحمر الفاتح.. واللون الأحمر الداكن الذي يصاحب صورة النص الثالث و يغطي عتبة شعاره,فهو قد يرمز إلى القوة ويوحي بالأمل وإشاعة روح التفاءل في مواجه المرض وكذا اللون الرمادي الأخضر الذي يصاحب صورة النص الرابع ويغطي عتبة شعاره,فهو ـ حسب دعاية البنك الدولي ـ قد يرمز إلى ذكاء وحكمة وتبصر تلك المنظمات المجتمعة في هذه القاعة الكبرى..
4 ـ 2 ـ 2 ـ 3 صياغة نص الوصول : يحسن أن نذكر بملاحظتين هامتين قبل أن نشرع في ترجمة الشعارات العشرة إلى اللغة الإنجليزية والفرنسية,تتعلق أولاهما بأن نص هذا الكتيب الأشهاري الصادر عن مؤسسة البنك الدولي,يكون في الغالب ترجمة أمينة لنص أصلي باللغة الإنجليزية,لذا فإن إعادة نقله إليها أو إلى اللغة الفرنسية,لا يطرح أي إشكال على مستوى النسق اللغوي,ذلك أن المترجم لا يجد صعوبة في اختيار المقابلات في اللغة الإنجليزية أو الفرنسية التي تقابل نظائرها في اللغة العربية,سواء تعلق الأمر بالوظائف الإبلاغية أو البلاغية.
وتتعلق ثانيهما بترجمة النسق الإيقوني التي قد تتطلب بعض التعديلات من بلد إلى آخر,فلابد مثلا من تغيير صورة الشاب المغربي بصورة شاب كونغولي أو نيجيري,إذا تعلق الأمر بالكونغو برازافيل الذي يستعمل اللغة الإنجليزية,أو النيجر الذي يتعامل باللغة الفرنسية,وقد يعدل ترتيب الشعارات حسب أو لويات هذا البلد أو ذاك,من ذلك مثلا أن شعار مكافحة السيدا عند الكونغوليين قد يسبق شعار التعليم ويأخذ المرتبة الولى,وقل مثل ذلك في أولوية شعار الماء والكهرباء والنقل عند النيجيريين,وكذا أولوية هذا الشعار أو ذاك عند بقية الدول الفقيرة أو النامية بما فيها الدول العربية والإسلامية.
أ ـ الترجمة إلى اللغة الإنجليزية(19):
10
Unknown Things about
The World Bank
The great change in the priorities of
The World Bank
1 2
The World bank as the first
Financiry institution of teaching
In the World
The World bank
Provides the poor with
Drinking water
Electricity and transportation
The World bank
In the first
External to combat
AIDS virus
The increase of the role
Of the civil society
In world bank
activities
3 4
The increase of The World bank
In the field of
partnership
The World bank is on
The best financing
Institutions of
Biological variation
5 6
The World bank
Supports the
Reduction the dehts
Of the poor countries
The World bank is a
Pioneer against
Corruption in
Various region
In The World
7 8
7
The World bank
Helps the countries
which apend
long Years in
conflicts
The World bank
Listens to the
poor
9 10
ب ـ الترجمة إلى اللغة الفرنسية
10
Nouvelles non
connues sur
La banque
mondiale
Grand changement des priorities de
La banque Mondiale
1 2
La banque Mondiale est une
source importante pour aider
les pauvres à s’approvisionner
en eau potable
en électricité en transport
3 4
le croissement de role
de la société civile
dans les activités de
la banque mondiale
5 6
Augmentation de tache de la banque mondiale de le cadre
d’association
La banque Mondiale
appuie avec fermeté
la baisse des dettes
des pays pauvre
La banque Mondiale est à
l’avant-garde des révoltés
contre la corruption dans
divers endroits
du monde
7 8
La banque Mondiale
aide les pays
qui se trouve dans
les tourmente des conflies
depuis longtemps
La banque Mondiale
est à l’écoute des voix
des pauvres
9 10
خـاتـمـة :
بعد هذه الدراسة الوظيفية التي مكنتنا من الوقوف على طبيعة النص الإشهاري من حيث معناه اللغوي والاصطلاحي وأنواعه,وتأثيراته الإيجابية والسلبية,كما مكنتنا من وصف ديناميته الإبلاغية بمكوناتها الأساسية ووظائفها الإبلاغية التي تقوم عليها,ثم الوظائف البلاغية اللغوية والإيقونية التي تحقق وظائف متعددة أهمها : الوظيفة التعبيرية والندائية أو الاستثارية والوظيفة الجمالية التي تحاول إقناع المستهلك وإغرائه باقتناء ما يعرض عليه,وأخيرا حاولنا أن نقدم مقاربة وظيفية,تقوم على ثلاث مراحل أساسية : مرحلة إبلاغية ومرحلة بلاغية,يمكن اعتبارهما سلما أو جسر عبور تفضي بنا إلى ترجمة أمينة أصيلة,وقد طبقنا هذه المقاربة على نصين إشهاريين أحدهما محلي قصير يخص وكالة ” جيزي ” نقلناه من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية,والآخر دولي طويل, هو عبارة عن كتيب إشهاري صادر عن البنك الدولي,قمنا بترجمة عتباته النصية إلى اللغة الإنجليزية واللغة الفرنسية.
* ملاحظة هامة جدا: لم نستطع للأسف التحكم بشكل كلي في ا لنص المرسل إلينا من الدكتور بعيطيش .وإن لاحظ بعض القراء نقصا في الدراسة أو التباسا فليراسلونا لنرسل اليهم على بريدهم نص المداخلة كاملا . وبالله التوفيق .
الـهــوامــش :
(1) محمد الديداوي : الترجمة والتواصل,المركز الثقافي العربي,ط1 , الدار لبيضاء المغرب 2000 ص ص : 13 – 14
(2 ) نفسه , ص ص : 21 – 22
(3 ) أحمد العابد وآخرون : المعجم العربي الأساسي ” لاروس ” المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.توزيع لاروس.ألكسو 1989 , مادتي : شهر وأعلن
(4) ينظر :موسوعة:Encyclopédie Encarta 2002 , مادة : Publicité ,وينظر كذلك :
شبكة الانترنيت:موقع سعيد بن كراد : http : www . Saidbengrad . com /
(5) نفسه, الموسوعة والموقع
(6) نفسه , موسوعة “ Encarta “
(7) ميلود سفاري : الإشهار ظاهرة العصر, مداخلة ضمن : الاتصال في المؤسسة , فعاليات الملتقى الوطني الثاني , مخبر علم اجتماع الاتصال , جامعة منتوري قسنطينة , الجزائر 2003 ص ص : 43 – 44
(8) ينظر موقع سعيد بن كراد,الموقع نفسه.
(9) ميلود سفاري : المرجع السابق , ص : 50
(10) نفسه , ص ص : 54 – 59
(11) نفسه , ص ص : 37 – 62
(12) يقابل مصطلح التبليغ هنا مفهوم “Communication bilatérale ”,ينظر:
Francis Vanoye: Expression Communication,Librairie, Armand Colin, Paris 1973 , p : 16
(13) يقابل مصطلح الإبلاغ هنا مفهوم “Communication unilatérale ”,المرجع نفسه,ص: 16
(14) ينظر : Francis Vanoye: Expression Communication, op-cit , pp : 13 – 19
(15) ينظر:رولان بارت:قراءة جديدة للبلاغة القديمة, تر:عمر أوكان , منشورات إفريقيا الشرق 1994, ص ص :91 ـ 92
(16) دليلة مورسلي وآخرون : مدخل إلى السيميولوجيا( نص ـ صورة ) , تر : عبد الحميد بورايو , ديوان المطبوعات الجامعية , 1995 , ص ص : 83 ـ 84
(17) عمرانالمصطفى : الخطاب الإشهاري بين التقرير والإيحاء,موقع سعيد بن كراد .
(18) ينظر : بسام قطوس : سيمياء العنوان,نشر وزارة الثقافة,عمان الأردن 2002 , ص ص : 30 ـ 31
(19) استعنا في ترجمة هذه الشعارت بالدكتور أحمد مومن رئيس قسم اللغة والأدب والإنجليزي.
* احفظ وشارك الموضوع
PostCategoryIcon مصنف في دراسات وابحاث أدبية
PostDateIcon 3 يناير , 2010 | PostAuthorIcon الكاتب: المحرر
بفييش
بقلم: الدكتور يحي بعيطيش
ترجمة النص الإشهاري :إذا كانت الترجمة في النصوص العادية,تعني نقل بلاغ أو رسالة مكتوبة أو شفوية,من لغة انطلاق أو منبع إلى لغة هدف أو مصب,…إن ترجمة النص الإشهاري تعتبر نوعا جديدا من الترجمة,ازدهرت في ظل العولمةالاقتصادية,التي تميزت بصفة خاصة بهيمنة ما أصبح يعرف باقتصاد السوق,تحولت فيه شعوب العالم إلى مجتمع عالمي واحد,يسيطر عليه سوق واحد,يقوم على حرية حركة المنتوجات والسلع والخدمات وتبادل المعلومات والأفكار في جميع المجالات,دون حواجز أو حدود أو قيود بين الشعوب أو الدول.
وازداد الإقبال عليها مع التطورات التيكنولوجية الهائلة في مجال الاتصال والمعلومات,التي
تميزت بالسرعة وانضغاط المكان..
وفي ظل هذا النظام العالمي الجديد,نشأت التكتلات الاقتصادية المختلفة(المؤسسات المالية البنك الدولي ..) والمنظمات التجارية المختلفة,والشركات المتعددة الجنسيات…عرف العالم معها مرحلة جديدة من الترابط الاقتصادي والتجاري,ارتفع فيه حجم المبادلات التجارية والخدماتية بين الدول,ارتفعت معها معدلات ..
وقد استفادت الترجمة بصفة عامة من آثار ومفعول العولمة الاقتصادية,حيث أصبحت أداة من أدوات العولمة ووسيلة من وسائل التفاهم والتبادل والتقارب البشري,وازدهرت بصفة خاصة الترجمة الإشهارية,وازداد الإقبال عليها وعلا نجمها في سماء العولمة,,فلجأت الشركات والمؤسسات الدولية المختلفة إلى الإعلان الإشهاري لجلب جماهير واسعة من المستهلكين لتسويق منتوجاتها وسلعها وخدماتها,وبذلك فتح باب ترجمة النص الإشهاري على مصراعيه.
4 ـ 2 نحو نموذج تطبيقي لترجمة النص الإشهاري : بعد عرضنا للخطوط العريضة للمقاربة الوظيفة,سنحاول توضيحها وتبيين كفايتها الترجمية من خلال نصين إشهاريين: محلى ودولي
4 ـ 2 ـ 1 النص المحلي : يخص لوحة إشهارية تضم نصا مكتوبا باللغة الفرنسية,لوكالة ” جيزي ” للهواتف النقالة,وانطلاقا من المنهجية المقاربة الوظيفية المقترحة,سنمر بالخطوات التالية :
4 ـ 2 ـ 1 ـ 1 الوظائف الإبلاغية في نص الانطلاق : وهي كما توضحه اللوحة الموالية :
أ ـ المبلغ(أو المرسل) : وهو وكالة جيزي للاتصالات,ممثلة في علامتها التجارية المعروفة,وهي عبارة عن
إطار بيضوي صغير,يتموضع تحت النص في الجهة اليمنى أسفل اللوحة,اللغوي أسفل كتبت داخله عبارة
جازي بالأحرف اللاتينية وبالعربية,مع ملاحظة أن هذه الأخيرة أقل حجما من اللاتينية.
ب ـ المبلغ(أو المرسل إليه) : جمهور مستعملي الهواتف النقالة ذكورا وإناثا بصفة عامة,والشباب بصفة خاصة
ج ـ المرجع : ويتعلق بالموضوع الذي يدور حوله نص الإشهار,وهو هنا بيع بطاقة الخط “ Puce “
وهي متواجدة في أسفل اللوحة في شكل مستطيل صغير كتب عليه ” عـيـش La vie “
د ـ قناة التبليغ : لوحة إشهارية,ملصقة في موقف من مواقف حافلات النقل العمومي
هـ ـ الوضع : ويتعلق بجملة القواعد والتقنيات التي صيغ بها النسق اللغوي والإيقوني لهذا النص الإشهاري,كما سيتضح في الفقرة الموالية الخاصة بالبلاغ
و ـ البلاغ (أو الرسالة) : وتشمل كما سبق توضيحه نسقين متعاضدين ومتكاملين,هما النسق اللغوي والنسق الإيقوني,أما النسق اللغوي فيتضح من خلال :
*الشعار : وهو عبارة عن جملة مختزلة في مركب حرفي : “à vie “
* النص اللغوي : ويتجسد في هذه الجملة البسطة ” Votr ligne a désormais une validité Illimitée “
وأما النسق الإيقوني فيضم ثلاث علامات أيقونية أساسية,هي اللون الأحمر والأخضر والصورة الفوتغرافية الثابتة,تقوم كل علامة بوظيفتين متعاضدتين:إبلاغية وبلاغية,حيث أن اللون الأحمر الذي أطر به الجانب العلوي والسفلي من اللوحة الإشهارية,يقوم بوظيفة اتصالية,تهدف إلى جلب انتباه المشاهد إلى النص الإشهاري(الشعار,الرسالة,الصورة),سواءا كان قريبا أو بعيدا عنه,وكذا اللون الأخضر المجسد لصدار الشبان الأربعة,والمميز للحرف الصائت(i) في عبارة الشعار أو العبارة الأخيرة في نص الرسالة,وفي السياق نفسه تقوم الصورة الفوتغرافية بتحديد الجمهور المقصود,وهو جمهور الشباب من الجنسين.
4 ـ 2 ـ 1 ـ 2 الوظائف البلاغية في نص الانطلاق :وتتمثل في الوظيفة البلاغية المهيمنة على النص من جهة,والدلالات والإيحاءات التي شحنت بها العلامات اللغوية وغير اللغوية من جهة أخرى,وشمل في نصنا هذا الأمور التالية :
أولا : الوظيفة البلاغية المهيمنة : وتتجسد هنا في الوظيفة الاستثارية والوظيفة الجمالية,حيث ركزت الأولى
على المشاهد وحاولت التأثير عليه وتوجيهه نحو منتوجها ” بطاقة الخط ” وإقناعه بأهميتها وفائدتها,وحاولت الثانية التسلل إلى وجدانه,عن طريق جماليات النسق اللغوي والإيقوني
ثانيا : جماليات اللغة : ويمكن تلمسها في مظهرين هما : الدقة والإيجاز المجسدين في رشاقة عبارة الشعار المختزلة في مركب حرفي(Groupe prépositionnel) وفي القيد المبأر(Focalisé) الدال على الإطلاق من جهة,وتقنية الكتابة التي استثمرت تضخيم الخط في عبارة الشعار,وتضخيم العبارة الأخيرة في نص الرسالة وتبئيرها,تمييزا لها عن باقي عبارات الإرسالية الإشهارية.
ثالثا : جماليات النسق الإيقوني : وقد تجسدت في الأمور التالية :
ـ إيحاءات الألوان التي شحنت بها اللوحة الإشهارية,كاللون الأحمر الذي لا يقتصر على الوظيفة الاتصالية الإبلاغية,فقد يرمز إلى الطاقة والحيوية والتحرر,واللون الأخضر الظاهر على لباس الشبان الأربعة وعلى نقطة حرف(i),فقد يرمز إلى الرخاء والارتخاء أضف إلى ذلك أنه لون أساسي من ألوان العلم الوطني رمز السيادة الوطنية..
ـ جمالية الصورة الفوتوغرافية : وقد تميزت باختيار عنصر الشباب رمز الأمل و القوة والمستقبل,باختيار ألبسة تعكس كما مر الانتماء,والمعاصرة والانفتاح التي توحي بها سراويل “الجينز” وأحذية الرياضة ..
فضلا عن تقارب أجسادهم وترتيبها شاب فشابة فشاب فشابة..
أضف إلى ذلك جماليات الحركة المتجسدة في حركة الرؤوس والأيدي والأرجل,المعبرة عن الفرحة العرمة التي جعلتهم يطيرون فرحا لمضمون خبر الإرسالية الإشهارية.
4 ـ 2 ـ 1 ـ 3 صياغة نص الوصول : انطلاقا من المقاربة الوظيفية التي حللنا من خلالها نص الانطلاق تحليلا لغويا سيميائيا,الذي كان بمثابة جسر,يسهل علينا العبور إلى نص الوصول,خصوصا وأن الوسائط الثلاثة(الاقتصادي والثقافي والإيديولوجي) لا تطرح أي إشكال يستوجب التكييف أو التعديل,لأنه نص محلي,يقتصر فيه هنا دور المترجم على اختيار المقابلات في اللغة العربية التي تقابل نظائرها في اللغة الفرنسية,سواء تعلق الأمر بالوظائف الإبلاغية أو البلاغية التي تخص النسق اللغوي دون غيره,حيث يصاغ نص الوصول كالآتي :
الشعار : ويمكن صياغته على غرار النص الأصلي في عبارة مختزلة في مركب ظرفي :
” مـدى الحياة ” بكتابة مضخمة مماثلة لعبارة الأصل,مع تلوين
الياء والتاء باللون الأخضر.
* النص اللغوي : ويمكن تجسيده في جملة بسيطة,بمواصفاتها الكتابية في النص الأصلي تماما كما مر
في عبارة الشعار : ” خطكم يتمتع منذ الآن بصلاحية
خطكم يتمتع منذ الآن بصلاحية
غير محدودة “
ولعل ما يحسن تسجيل في هذا الصدد,هو أن ترجمة النص المحلي,
إن كانت لا تثير في الغالب أي إشكال, على مستوى النسق الإيقوني,فإنها في النص الدولي غير ذلك,إذ يتطلب الأمر تدخل الوسائط السالفة الذكر, لاسيما الوسيط الثقافي أو الإيديولوجي أو كليهما معا,فلو أن وكالة جيزي تطلعت إلى توسيع استثمارها خارج الوطن،كأن تختار على سبيل المثال بلدا عربيا خليجيا مثل الكويت أو السعودية,فإنها تضطر إلى تعديل أو تكييف كل النسق الإيقوني،ليتلاءم ويوافق ثقافة البلدين السابقين,يظهر ذلك جليا في التعديل الكبير الذي يطال الصورة الفوتغرافية,لتتلاءم مع العادات الاجتماعية السائدة,بدءا باختيار شباب ذكور دون الإناث..مرورا بطبيعة اللباس الذي يتوجب أن يكون عباءة أو إزارا أبيض وعمامة أو كوفية,وانتهاء بإظهار الفرحة العرمة بحركة معينة من اليدين أو ابتسامة عريضة على الشفتين,أو إظهار الشخص على صهوة حصان في وضعية طيران,إن أردنا نقل دلالة الصورة الإيقونية بأمانة..
4 ـ 2 ـ 2 النص الدولي : ويتعلق بنص طويل مدون في كتيب إشهاري,صادر عن مؤسسة مالية دولية هي البنك الدولي,مكتوب باللغة العربية,من المؤكد أنها ترجمة عن أصل مكتوب باللغة الإنجليزية.
وانطلاقا من المنهجية الوظيفية التي حاولنا تطبيقها فى النص الأول,ارتأينا أن نقدم بعض الملخصات لما احتوته العناوين أو الشعارات العشر لنص الكتيب,مقتصرين على ترجمة تلك الشعارات إلى اللغة الإنجليزية والفرنسية,على اعتبار أنها عتبات نصية(18) تختزل مضامين تلك النصوص وتحتويها,وذلك اجتنابا للتطويل الذي لا تحتمله هذه الدراسة.
4 ـ 2 ـ 2 ـ 1 الوظائف الإبلاغية في نص الانطلاق : تجدر الإشارة في البداية أننا نعني بنص الانطلاق هنا النص المكتوب باللغة العربية,وهي كالآتي :
أ ـ المبلغ(أو المرسل) : وهو البنك الدولي الممثل بعلامته الدولية,وهي عبارة عن مربع صغير يحمل رسما للكرة الأرضية تتقاطع فيها خطوط صفراء,تمثل خطوط الطول والعرض.
ب ـ المبلغ(أو المرسل إليه) :قطاعات كبيرة من الجماهير ومنظمات المجتمع المدني والجماعات المحلية والجمعيات والمؤسسات الاقتصادية والصناعية والتنظيمات السياسية الرسمية…في الدول الإفريقية والعالم الثالث بصفة خاصة,وبعض هذه القطاعات في المملكة المغربية بصفة عامة,على اعتبار أن الكتيب يحمل عنوان أحد فروع البنك الدولي في الرباط .
ج ـ المرجع : ويتعلق بالموضوعات التي يدور حولها نص الإشهار: التعليم ,النقل,الرعاية الصحة والاجتماعية,النقل,حماية البيئة والطبيعة,محاربة الفساد والفقر…
د ـ قناة التبليغ : كتيب صغير بحجم مقاسه 15 ⁄ 15 مكون من اثنتي عشرة صفحة ملونة وشفافة وذات نوعية ورقية رفيعة,توزع مجانا على الجماهير,في مراكز البريد والمصارف المالية والبنوك المختلفة…
يبدأ الكتيب بصفحة الغلاف الأولى : وهي تحمل العنوان أو الشعار العام للكتيب الإشهاري,مكتوب ببنط عريض,وينتهي بهذه االصفحة التي تحمل علامة البنك الدولي,وعنوان فرعه في المغرب وعنوان المقر الرئيسي في واشنطن, كما توضحه الصورتان المواليتان :
هـ ـ البلاغ (أو الرسالة) : وهو نص طويل يتوزع على اثنتي عشرة صفحة,يتقاسم كل صفحة فقرة,أو بالأحرى نصا لغويا صغيرا,تدعمه صورة فوتغرافية ملونة,بالتناوب(صورة/نص أو نص/صورة),نحاول استعراضها مرتبة كالآتي:
♦ المقدمة : تتصدرها في الصفحة الأولى صورة فوتغرافية لشاب مغربي بالزي التقليدي,تتلوها الصفحة الثانية,يتصدرها شعار عام كما توضحه الصورة :
أما ملخص نص المقدمة فيدور حول الدعاية لرسالة البنك الدولي المتمثلة في رعايته للمشاريع الكبرى التي أشرف عليها ورعاها بالخبرة والدعم المالي والاستراتيجيات الفعالة الناجحة ..فيتحدث بلغة الأرقام عن الدول التي استفادت من تلك المشاريع,وعن الأموال الضخمة التي خصصت لإنجاح مشاريع حيوية كالتعليم والصحة والنقل ومحاربة الفقر.. كما ستوضحه الشعارات العشر المجسدة لنصوص هذا الكتيب الإشهاري.
♦ النص الأول : ويخص قطاع التعليم,تبدأ صفحته الأولى بصورة فوتغرافية,تليها الصفحة الثانية,مصدرة بعتبة نص لغوي,تحمل الشعار العام مميزا بالرقم1 مكبرا ومفخما,كما توضحه الصورة.
ـ ملخص النص1 : أن البنك الدولي يمول ويرعى حاليا 157 مشروعا تعليميا في 83 بلدا من البلدان النامية,رصد لها ما يزيد عن 33 مليار دولار,منها دعم التعليم الأساسي في المغرب بقيمة 46 مليون دولار,ودعم مشروع جمعية (ألفا المغرب) لتعليم الكبار بقيمة 1.4 مليون دولار.
♦ النص الثاني : يخص الخدمات الاجتماعية الأساسية في البلدان النامية,يبدأ بنص لغوي تحمل عتبته شعارا مميزا برقم 2 مكبرا ومخما,متبوعا بصورة فوتوغرافية,كما توضحه الصورة الموالية :
ـ ملخص النص2 : كثير من المناطق في البلدان النامية محرومة من المياه الصالحة للشرب,ومن الكهرباء والنقل,ومن الخدمات الأساسية الضرورية في الحياة اليومية,إذ أن حوالي 3 مليار شخص يعيشون في دور لا تتوفر فيها أنظمة الصرف الصحي,لذا يقوم البنك الدولي بعدة مشاريع تسهم في توفير المياه الصالحة للشرب والكهرباء,و تحسين ظروف الحياة في مدن الصفيح,وشق الطرق لفك العزلة على المناطق المعزولة.
♦ النص الثالث : يخص الخدمات الصحية,يستهل صفحته الأولى بصورة,تليها الصفحة النص اللغوي بعتبة تحمل الشعار رقم 3 بالمواصفات السابقة .
ـ ملخص النص3 : يصاب يوميا 14000 شخصا بفيروس السيدا,وهو تهديد كبير للمكتسبات الاجتماعية والاقتصادية لبلدان العالم بصفة عامة,وبلدان العالم الثالث خاصة البلدان الإفريقية الفقيرة بصفة خاصة,لذا كانت مكافحة هذا الداء من أولويات البنك الدولي,حيث خصص له مبلغا بقيمة 1.6 مليار,و1 مليار دولار خاص بالبلدان الإفريقية,علاوة على تخصيص مبلغ 1.3 مليون دولار كقروض,توجه لقطاع الصحة والتغذية والسكان في البلدان النامية.
♦ النص الرابع: يتعلق هذا النص بدعم منظمات المجتمع المدني,يبدأ بعتبة نصية تحمل الشعار العام,مشفوعة بهذه الصورة الفوتغرافية :
♦ النص الخامس: يتعلق بحماية الطبيعة,كما تمثله الصورة,ويختزله شعار العتبة النصية :
♦ النص السادس : يرتبط هذا النص بدعم الزراعة وتطويرها,كما تمثله عتبة النص والصورة المرافقة لها :
♦ النص السابع : يتعلق بحماية المجتمعات من الفساد المالي,كما توضحه الصورة,ويختزله شعار العتبة النصية :
♦ النص الثامن : يرتبط بمساعدة الدول الفقيرة المديونة,كما تمثله عتبة النص والصورة المرافقة لها
♦ النص التاسع : يتعلق بمساعدة المجتمعات على التخلص من آثار مخلفات الصراعات والحروب,كما توضحه الصورة,ويختزله شعار العتبة النصية :
♦ النص العاشر : يرتبط بمساعدة الفقراء,كما تختزله عبارة عتبة النص,والصورة المرافقة لها :
4 ـ 2 ـ 2 ـ 2 الوظائف البلاغية في نص الانطلاق : وهي جملة الوظائف التي نستخلصها من الوظيفة البلاغية المهيمنة على البنية الكبرى للنص ببناه أو نصوصه الصغرى السالفة الذكر من جهة,والدلالات والإيحاءات التي شحنت بها العلامات اللغوية وغير اللغوية المشكلة لتلك النصوص من جهة أخرى,وتشمل في نصنا هذا الأمور التالية :
أولا : الوظيفة البلاغية المهيمنة : وتتجسد هنا في الوظيفة الاستثارية والوظيفة الجمالية,الموظفتين أساسا لخدمة الوظيفة التعبيرية التي نجدها مهيمنة على النص من بدايته إلى نهايته,يظهر ذلك جليا في تركيز النص على تجميل صورة البنك الدولي,وإظهاره بصورة المؤسسة الخيرية,فهو المهدي المنتظر الذي جاء ليزرع
قيم الخير والعدل والأمن في العالم,يحارب الجهل والفقر والمرض ويشق الطرقات ويفجر الأرض أنهارا ويحولها إلى جنة أرضية..
تلك هي الدعاية التي حاول من خلالها البنك الدولي إقناع المتلقي أو قارئ هذا الكتيب وتوجيهه نحو شعاراته البراقة,في محاولة جادة للتسلل إلى وجدانه,من أجل إقناعه بها وإغرائه,متوسلا بجماليات النسق اللغوي والإيقوني.
ثانيا : جماليات اللغة :ويمكن تلمسها في النسيج التركيبي والطباعي للنصوص العشرة,يتميز أولهما بجمل وعبارات قصيرة مكثفة,تتشابك وتتلاحم مكونة لغة مصرفية متخصصة,لا تقتصر على مخاطبة القارئ بأرقام دقيقة واقعية,وإنما لها قوة رمزية إيحائية؛فاختيار الرقم أو العدد 10 لم يكن من قبيل الصدفة,وإنما هو من قبيل الرمز الذي يشحن الإرسالية الإشهارية بشحنة ثقافية دينية ترجع بنا إلى الوصايا العشر في الديانة اليهودية.
ويسند هذه اللغة تقنيات طباعية تعتمد على إبراز وتضخيم أرقام العتبات النصية وترتيبها,فضلا عن تضخيم عبارات الشعارات تمييزا لها عن عبارات النص,مع تبئير بعض التراكيب بلون مغاير,كما في عبارة العنوان العام,حيث ميزت عبارة البنك الدولي بلون أصفر,وضخمت كلمة ” التغير ” في بداية شعار المقدمة,وعبارة
” البنك الدولي ” في نهايته.
ويسند هذه اللغة تقنيات طباعية تعتمد على إبراز وتضخيم أرقام العتبات النصية وترتيبها,فضلا عن تضخيم عبارات الشعارات تمييزا لها عن عبارات النص,مع تبئير بعض التراكيب بلون مغاير,كما في عبارة العنوان العام,حيث ميزت عبارة البنك الدولي بلون أصفر,وضخمت كلمة ” التغير ” في بداية شعار المقدمة,وعبارة
” البنك الدولي ” في نهايته.
ثالثا : جماليات النسق الإيقوني : وقد تجسدت في الأمور التالية :
ـ جمالية الصور الفوتوغرافية : وتتمثل في العناية الفائقة في اختيار صور فوتغرافية تعكس بقوة المقاصد الإبلاغية من جهة,مع إضفاء مسحة جمالية فنية من جهة أخرى,يظهر ذلك جليا في صور الكتيب كلها , من ذلك على سبيل التمثيل لا التفصيل الذي لايسمح به المقام,صورة المقدمة التي اختير لها وجه شاب مغربي ينساب ماء الشباب من تقاطيع وجهه,ويلوح السرور من بسمته الهادئة ونظرته الوديعة,فضلا عن الاتساق بين لون بشرته والكوفية التقليدية التي يغطي بها رأسه,أو صورة المنظر الطبيعي الخلاب بخضرة نباته وأشجاره,تدفق شلالاته في في بداية النص الخامس…
ـ إيحاءات الألوان : وتتمثل في توظيف تقنية التلاعب بالألوان,إذ لا يمكن التحدث عن الجمال بمعزل عن
الألوان,سواء تعلق الأمر بألوان الصورة نفسها أو الألوان الأساسية المصاحبة لها,وفي هذا الصدد يمكن أن نذكر على سبيل التمثيل لا الحصر: اللون القمحي لبشرة الشاب المغربي في صورة المقدمة,وانسجامها مع غطاء الرأس المزركش باللون البنفسجي والحمر الفاتح.. واللون الأحمر الداكن الذي يصاحب صورة النص الثالث و يغطي عتبة شعاره,فهو قد يرمز إلى القوة ويوحي بالأمل وإشاعة روح التفاءل في مواجه المرض وكذا اللون الرمادي الأخضر الذي يصاحب صورة النص الرابع ويغطي عتبة شعاره,فهو ـ حسب دعاية البنك الدولي ـ قد يرمز إلى ذكاء وحكمة وتبصر تلك المنظمات المجتمعة في هذه القاعة الكبرى..
4 ـ 2 ـ 2 ـ 3 صياغة نص الوصول : يحسن أن نذكر بملاحظتين هامتين قبل أن نشرع في ترجمة الشعارات العشرة إلى اللغة الإنجليزية والفرنسية,تتعلق أولاهما بأن نص هذا الكتيب الأشهاري الصادر عن مؤسسة البنك الدولي,يكون في الغالب ترجمة أمينة لنص أصلي باللغة الإنجليزية,لذا فإن إعادة نقله إليها أو إلى اللغة الفرنسية,لا يطرح أي إشكال على مستوى النسق اللغوي,ذلك أن المترجم لا يجد صعوبة في اختيار المقابلات في اللغة الإنجليزية أو الفرنسية التي تقابل نظائرها في اللغة العربية,سواء تعلق الأمر بالوظائف الإبلاغية أو البلاغية.
وتتعلق ثانيهما بترجمة النسق الإيقوني التي قد تتطلب بعض التعديلات من بلد إلى آخر,فلابد مثلا من تغيير صورة الشاب المغربي بصورة شاب كونغولي أو نيجيري,إذا تعلق الأمر بالكونغو برازافيل الذي يستعمل اللغة الإنجليزية,أو النيجر الذي يتعامل باللغة الفرنسية,وقد يعدل ترتيب الشعارات حسب أو لويات هذا البلد أو ذاك,من ذلك مثلا أن شعار مكافحة السيدا عند الكونغوليين قد يسبق شعار التعليم ويأخذ المرتبة الولى,وقل مثل ذلك في أولوية شعار الماء والكهرباء والنقل عند النيجيريين,وكذا أولوية هذا الشعار أو ذاك عند بقية الدول الفقيرة أو النامية بما فيها الدول العربية والإسلامية.
أ ـ الترجمة إلى اللغة الإنجليزية(19):
10
Unknown Things about
The World Bank
The great change in the priorities of
The World Bank
1 2
The World bank as the first
Financiry institution of teaching
In the World
The World bank
Provides the poor with
Drinking water
Electricity and transportation
The World bank
In the first
External to combat
AIDS virus
The increase of the role
Of the civil society
In world bank
activities
3 4
The increase of The World bank
In the field of
partnership
The World bank is on
The best financing
Institutions of
Biological variation
5 6
The World bank
Supports the
Reduction the dehts
Of the poor countries
The World bank is a
Pioneer against
Corruption in
Various region
In The World
7 8
7
The World bank
Helps the countries
which apend
long Years in
conflicts
The World bank
Listens to the
poor
9 10
ب ـ الترجمة إلى اللغة الفرنسية
10
Nouvelles non
connues sur
La banque
mondiale
Grand changement des priorities de
La banque Mondiale
1 2
La banque Mondiale est une
source importante pour aider
les pauvres à s’approvisionner
en eau potable
en électricité en transport
3 4
le croissement de role
de la société civile
dans les activités de
la banque mondiale
5 6
Augmentation de tache de la banque mondiale de le cadre
d’association
La banque Mondiale
appuie avec fermeté
la baisse des dettes
des pays pauvre
La banque Mondiale est à
l’avant-garde des révoltés
contre la corruption dans
divers endroits
du monde
7 8
La banque Mondiale
aide les pays
qui se trouve dans
les tourmente des conflies
depuis longtemps
La banque Mondiale
est à l’écoute des voix
des pauvres
9 10
خـاتـمـة :
بعد هذه الدراسة الوظيفية التي مكنتنا من الوقوف على طبيعة النص الإشهاري من حيث معناه اللغوي والاصطلاحي وأنواعه,وتأثيراته الإيجابية والسلبية,كما مكنتنا من وصف ديناميته الإبلاغية بمكوناتها الأساسية ووظائفها الإبلاغية التي تقوم عليها,ثم الوظائف البلاغية اللغوية والإيقونية التي تحقق وظائف متعددة أهمها : الوظيفة التعبيرية والندائية أو الاستثارية والوظيفة الجمالية التي تحاول إقناع المستهلك وإغرائه باقتناء ما يعرض عليه,وأخيرا حاولنا أن نقدم مقاربة وظيفية,تقوم على ثلاث مراحل أساسية : مرحلة إبلاغية ومرحلة بلاغية,يمكن اعتبارهما سلما أو جسر عبور تفضي بنا إلى ترجمة أمينة أصيلة,وقد طبقنا هذه المقاربة على نصين إشهاريين أحدهما محلي قصير يخص وكالة ” جيزي ” نقلناه من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية,والآخر دولي طويل, هو عبارة عن كتيب إشهاري صادر عن البنك الدولي,قمنا بترجمة عتباته النصية إلى اللغة الإنجليزية واللغة الفرنسية.
* ملاحظة هامة جدا: لم نستطع للأسف التحكم بشكل كلي في ا لنص المرسل إلينا من الدكتور بعيطيش .وإن لاحظ بعض القراء نقصا في الدراسة أو التباسا فليراسلونا لنرسل اليهم على بريدهم نص المداخلة كاملا . وبالله التوفيق .
الـهــوامــش :
(1) محمد الديداوي : الترجمة والتواصل,المركز الثقافي العربي,ط1 , الدار لبيضاء المغرب 2000 ص ص : 13 – 14
(2 ) نفسه , ص ص : 21 – 22
(3 ) أحمد العابد وآخرون : المعجم العربي الأساسي ” لاروس ” المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.توزيع لاروس.ألكسو 1989 , مادتي : شهر وأعلن
(4) ينظر :موسوعة:Encyclopédie Encarta 2002 , مادة : Publicité ,وينظر كذلك :
شبكة الانترنيت:موقع سعيد بن كراد : http : www . Saidbengrad . com /
(5) نفسه, الموسوعة والموقع
(6) نفسه , موسوعة “ Encarta “
(7) ميلود سفاري : الإشهار ظاهرة العصر, مداخلة ضمن : الاتصال في المؤسسة , فعاليات الملتقى الوطني الثاني , مخبر علم اجتماع الاتصال , جامعة منتوري قسنطينة , الجزائر 2003 ص ص : 43 – 44
(8) ينظر موقع سعيد بن كراد,الموقع نفسه.
(9) ميلود سفاري : المرجع السابق , ص : 50
(10) نفسه , ص ص : 54 – 59
(11) نفسه , ص ص : 37 – 62
(12) يقابل مصطلح التبليغ هنا مفهوم “Communication bilatérale ”,ينظر:
Francis Vanoye: Expression Communication,Librairie, Armand Colin, Paris 1973 , p : 16
(13) يقابل مصطلح الإبلاغ هنا مفهوم “Communication unilatérale ”,المرجع نفسه,ص: 16
(14) ينظر : Francis Vanoye: Expression Communication, op-cit , pp : 13 – 19
(15) ينظر:رولان بارت:قراءة جديدة للبلاغة القديمة, تر:عمر أوكان , منشورات إفريقيا الشرق 1994, ص ص :91 ـ 92
(16) دليلة مورسلي وآخرون : مدخل إلى السيميولوجيا( نص ـ صورة ) , تر : عبد الحميد بورايو , ديوان المطبوعات الجامعية , 1995 , ص ص : 83 ـ 84
(17) عمرانالمصطفى : الخطاب الإشهاري بين التقرير والإيحاء,موقع سعيد بن كراد .
(18) ينظر : بسام قطوس : سيمياء العنوان,نشر وزارة الثقافة,عمان الأردن 2002 , ص ص : 30 ـ 31
(19) استعنا في ترجمة هذه الشعارت بالدكتور أحمد مومن رئيس قسم اللغة والأدب والإنجليزي.
* احفظ وشارك الموضوع
PostCategoryIcon مصنف في دراسات وابحاث أدبية
السبت، 2 يناير 2010
الجمعة، 1 يناير 2010
الفصاحة و البلاغة : عرض
جامعة محمد بن عبد الله شعبة اللغة العربية وآدابها
كلية الآداب والعلوم الإنسانية تخصص: لسانيات
سايس – فاس
ماستر اللغة العربية والنظريات اللسانية
مادة: النظـــــــــم.
عنوان العرض
إعداد كل من الطلبة: الأستاذ المشرف على المادة:
- سهام عبد الكبـيـــــــر.
- يونس بن عــــــــلال. د.أحمد العبدلاوي العلوي.
- إدريس الوالي العلمي.
الموسم الدراسي:
2009 – 2010.
1- تمهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيد.
2- تعريف الفصاحة والبلاغة لغـــــــــــــــــة واصطلاحـــــــــــا.
3- أوجه الائتلاف والاختلاف بين الفصاحـــــــة البلاغـــــــــــــة.
4- أهمية النظــــــــــــــــم في الفصاحــــــــــة والبلاغــــــــــــــة.
5- خطاطــــــــــــــــــــــــــــــــة توضيحيــــــــــــــــــــــــــــــــة.
6- قوة فصاحـــــــــة وبلاغـــــــة القرآن في التأثير على النفـــس.
7- النظرية الجرجانية وعمق بلاغتها في الدلالة الإعجازية للقرآن.
8- شروط وجوب الفصاحـــــــــــــــة ومايجـــــب تجنبـــــه فيها.
8- خلاصـــــــــــــــــــــــــــــــة.
1- دلائل الإعجاز" عبد القاهر الجرجاني ":- تحقيق محمد رشيد رضا.
- تحقيق محمد محمود شاكر.
2- سر الفصاحة " ابن سنان الخفاجـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي ".
3- بلاغــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة العطف في القرآن " عفت الشرقاوي".
4- أساس البلاغــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة " الزمخشري ".
5- البلاغــــــــــــــــــــــــــــتـة العربية وعلم المعاني "عد العزيز عثيق".
6- المثــــــــــــــــــــــــــــــــل السائر " أبو الفتح ضياء الدين الموصلي".
7- في بلاغــــــــــــــــــــــــــــــــــة النظم العربي " عبدالعزيز العطي".
8- عبد القاهر الجرجانـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي " أحمد أحمد بدوي.
www.islamacademy.net
بسم الله الرحمن الرحيم،
سبحان الذي تخشعت من كلامه الجبال وتصدعت اندهشت الجن وتعجبت واهتزت القلوب واطمأنت وسالت الدموع وانقشعت وألهمت الألسنة البلاغة وأفصحت وارتقت الأنفس وتعالت والصلاة والسلام على أشرف الخلق وطب القلوب شافي الأسقام والمنجي من الكروب النبي المحبوب.
بادئ ذي بدء، تحية علمية مفادها الاحترام والتقدير لأستادنا الفاضل أحمد العبدلاوي العلوي وإلى جميع الطلبة والطالبات من سلك ماستر اللغة العربية والنظريات اللسانية، كما نرجوا من خلال عرضنا المتواضع هذا من أن تتم الفائدة المتوخاة فيما بيننا حتى يثرى النقاش وينبذ الانكماش وتروى الكلمات العطاش في حضرة موضوع الإعجاز بكل قابلية وانتعاش.
أما بعد،
هانحن نقف وقفة تأمل بمد البصراللامتناهي أمام عمودين من أصلب أعمدة التواصل اللغوي الإنساني، باعتبارهما ذلك الأساس الذي تبنى عليه جسور اللغة العربية وفق هندسة تأليفية تشد رباط الأمان في إيفاء وإيصال المقصود النابع من اللسان (اللفظ) والمستقر في الأذهان (المعنى) وفق حميمية تمازج وتناغم فني إيحائي.
فحيهلا بموضع كثر فيه الكلام بين شداق وحداق لما لا وهو موضوع من المواضيع الوازنة لكونها شرف العرب في كشف ضيق الغمة والتعريف بقوة وموروث لغة هذه الأمة الفصاحة والبلاغة، المفتاحان الذهبيان لدخول مملكة علم الكلام في فهم دلائل إعجاز القرآن وغيره.
فكما نعلم أن كلا من اللساني وعالم الأنتربولوجيا والفيلسوف والمنطقي والبلاغي والفقيه اللغوي والنحوي والشاعر وغيرهم يتلهف رعشة شوق للمزيد من اكتشاف أسرار بحور اللغة العربية راكبا لزورق الفصاحة ومادا لأشرعة البلاغة فوق مياه معان مترابطة لدرجة الذوبان والصفاء والانقشاع وفق نظم كلامي عجيب مشكلا جسر حبل سري موصل للعملية التواصلية الحقة في اللغة. فما هي الفصاحة والبلاغة إذن؟
تعريف الفصاحة والبلاغة:
الفصاخة لغة:الظهور والبيان، ومنها نقول :" فصح اللبن، إذا انجلت رغوته وبان زبده " وقول الشاعر أيضا : " وتخت الرغوة اللبن الفصيح " والكتاب العزيز، قال الله تعالى: "وأخي هارون هو أفصح مني لسانا " أي أوضح وأبين. وقد علق الجاحظ على هذه الآية بأن موسى عليه السلام قال ذلك " رغبة في غاية الإفصاح بالحجة، والمبالغة في وضوح الدلالة لتكون الأعناق إليه أميل، والعقول عنه أفهم، والنفوس إليه أسرع".
وهو ما يوضّح جلياً أن مفهوم الفصاحة "يعني القدرة على الأداء الصوتي الصحيح الذي يتسم(...) بوضوح النطق من ناحية وطلاقة اللسان من جهة أخرى، في مقابل مفهوم العيّ، بمعنى عدم القدرة على الأداء الصوتي الصحيح أو ظهور الانحرافات الصوتية".
وكذلك السيوطي حين تطرق إلى معرفة الفصيح، وأشار إلى أنه يتعلق بجانبين: جانب اللفظ وجانب المتكلم، لكن اللفظ أخص من المتكلم " لأن العربي الفصيح قد يتكلم بلفظة لا تُعَدُّ فصيحة".
أما الفصاحة اصطلاحا: عبارة عن الألفاظ الظاهرة المألوفة الاستعمال عند العرب، وتكون وصفا للكلمة والكلام والمتكلم، فيقال: كلمة فصيحة، وكلام فصيح، ومتكلم فصيح. ومعناه كذلك وصول الكلام غايته من الوضوح والبيان أي يكون الكلام منضبطا لغويا ونحويا مطابقا لجميع القواعد المعروفة.
تعريف البلاغة :
البلاغة لغة: معناها الوصول والانتهاء، قال تعالى في سورة يوسف الآية:22 : " ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما " أي : وصل.
البلاغة اصطلاحا: هي التعبير عن المعنى الجليل تعبيرا يثير قي نفس القارئ والسامع مشاعر وخواطر تؤثرقيه ، وتحمل إليه المتعة بما في التعبير من جمال الآداب مع ملاءمة كل كلام للموطن الذي يقال فيه والأشخاص الذي يوجه إليهم ، أي مراعاة مقتضى الحال مثلا لمقام هول الكلام ولمقام جد الكلام ولكل مقام مقال .
وظيفة البلاغة: تزود القارئ بمعرفة الوسائل التي يستعين بها الأديب في التعبير وتعريفه الأسلوب الأدبي، وتهيئ له أن يستوعب الفروق بينه وبين غيره من أساليب الكلام العادي، كما تقدم له دراسة استخدام الألفاظ، وبناء الجملة والعبارة والصورة وتوضح له أثر ذلك في نجاح العمل الأدبي ، أو قصوره في أن ينقل إلى السامع ا و القارئ ما أراد الأديب أن ينقله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المعنى الدلالي الحرفي لكلمة فصاحة: الفاء: فسحة ،الصاد: صوت، والألف: ألفة، والحاء: حكمة ، والتاء: ترابط. والمعنى الجامع هو:" فسحة الصوت وألفة الترابط الحكيم ".
المعنى الدلالي الحرفي لكلمة بلاغة: هي لفظة خماسية بها تشد عرى الوضوح وسلامة النطق، وهي كالآتي: الباء: بيان، واللام: لمحة، والألف: أنس، والغاء: غلة، والتاء: تمرة. والمعنى الجامع هو:" تمرة غلة ولمحة أنس وبيان ".
أوجه الاختلاف والائتلاف بين الفصاحة والبلاغة :
تعددت الآراء واختلف تجاه المفهومين، فالعديد من العلماء أجمعوا عن معنى البلاغة، لكنهم اختلفوا في معنى الفصاحة، واختلافهم راجع إلى اللفظ والمعنى.
فمنهم من يقول أن الفصاحة مختصة باللفظ، والبلاغة مختصة بالمعنى أي أن اللفظ يكون فصيحا ولايقال عنه بليغا، إلا إذا كان في جملة تبلغ المعنى المنشود فيصبح بليغا.
فجعلوا الفرق بينهما أي الفصاحة والبلاغة، أنه يقال للفظة فصيحة ولا يقال لها بليغة، بينما الكلام عندهم فصيح وبليغ ومن بين هؤلاء البلاغيين، ابن سنان الخفاجي في كتابه " سر البلاغة "حيث يقول: " الفصاحة مقصورة علي وصف الألفاظ والبلاغة لاتكون إلا وصفا للألفاظ مع المعاني فلا يقال عن كل كلمة واحدة لاتدل على معنى وإن قيل فيها فصيحة وكل كلام بليغ فصيح وليس كل فصيح بليغا".1
ويقول في مكان آخر من الكتاب: " الفصاحة نعت الألفاظ إذا وجدت على شروط عدة ومتى تكاملت تلك الشروط فلا مزيد على فصاحة تلك الألفاظ ".
ويقسم ابن خفاجة الفصاحي إلى قسمين قسم يرجع اللفظ وحده، وقسم يعود إلى التأليف، فإن ابن الأثيريرى"أن الكلام الفصيح هو الظاهر البين ، وأعني بالظاهر البين أن تكون ألفاظه مفهومة لاتحتاج في فهمها إلى استخراج من كتاب لغة ، وإنما كانت بهذه الصفة ، لأنها تكون مألوفة الاستعمال بين أرباب النظم ........إلى قوله ولكن أرباب اللغة غربلوا اللغة باعتبارالألفاظ وسبروا وقسموا، فاختاروا الحسن من الحسن من الألفاظ بسبب استعمالها دون غيرها، فالفصيح إذا من الألفاظ هو الحسن". انظر الخطاطة.
الفصاحة البلاغة
اللفــــــظ الكـــــــــلام المعنـــــى
فعبد القاهر الجرجاني يقف طرفي نقيض معهما، فقد كان بفكره الكلي يجعل مدار الفصاحة على النظم الذي هو تلاؤم اللفظة مع أخواتها السابقة أو اللاحقة وممن أخذ برأي الجرجاني يحيى بن حمزة العلوي في كتاب " الطراز " حيث قال :" اعلم أن الألفاظ إذا كانت مركبة لإفادة المعنى فإنها يحصل لها بمزية التركيب حظ لم يكن حاصلا مع الأفراد".
وهذا ما أكده الجرجاني في كتابه دلائل الإعجازحيث يقول:" فقد اتضح إذن اتضاحا لايدع للشك مجالا أن الألفاظ لاتتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة ، ولامن حيث هي كلم مفردة، وأن الألفظ تثبت لها الفضيلة وخلافها في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها أو ما أشبه ذلك ممالا تعلق له بصريح اللفظ ومما يشهد لذلك أنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع ثم تراها بعينيها تنقل عليك وتوحشك في موضع آخر كلفظ "الأخدع " في بيت الحماسة للشاعر عبد اللطيف بن طفيل بن الحارث:
تلفت نحو الحي حتى وجدتني وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا1
وبيت النحتري:
وإني وإن بلغتني شرف الغنى وأعتقت من رق المطامع أخدعي2
انظر الخطاطة التوضحية:
النظـــــــــــم
الحرف كلمة جملة
تقارب المخارج تباعد المخارج تكرار مطابقة القياس عدم الإطناب في طول العبارات
هخهخ لفظة مستحسنة وقبر حرب بمكان قفر "الحمد لله العلي الآجلل
تكاكأتم وليس قرن قبر حرب قبر.3
السماع / الكتابة
السياق
الفصاحة البلاغة
نظم
سلامة النطق التوازي الصوتي النحو دقة المعنى عدم الإفراط في تكثيف
الحمولة البلاغية ( التصنع) الألفاظ مغلقة على معانيها حتى
يكون الإعراب مفتاحها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الليت : صفحة العنق . الأخدعان : عرقان في جانبي العنق قد خفيا وبطنا.
(2) دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني ص: 47.
(3) عبد القاهر الجرجاني لأحمد أحمد بدوي ص:103.
إضافة: يقول : أبو القاسم الآمدي وهو مؤيد للجرجاني بقوله: الفصاحة صنو البلاغة، فالفصاحة وجه في وجوه البلاغة ، كما عرفها بأنها: " إصابة المعنى وإدراك الغرض بألفاظ سهلة و كافية لاتبلغ الهدر الزائد ولا تنقص نقصا يحول دون الغاية....".
كما بين الجرجاني أيضا أن الفصاحة لا تقتصر على اللفظ بل هي في المعنى أيضا وهذا هو الأهم حيث يقول : " وهل تجد أحدا يقول: "هذه اللفظة فصيحة إلاوهو يعتبر مكانها في النظم وحسن ملاءمة معانها لمعنى جاراتها وفضل مؤنستها لأخوانها".1 .
مثــــــــال
الفصاحة الفصاحة
اللفظ العنى الألـفــــــــــــاظ المعنى
محمد
تجري
التمازج والمؤانسة الشمس وجهه منير و مشرق
في
وجهه
التركيبة الكلامية
ثم يضيف قائلا : "وهل قالوا لفظة متمكنة ومقبولة وفي خلافها : قلقة ونابية ومستكرهة إلا وغرضهم أن يعبروا بالتمكن عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناهما وبالقلق والنبو عن سوء التلاؤم أن الأولى لم تلق بالثانية في معناها وأن السابقة لم تصلح أن تكون لفقا للتالية في مؤداها".2
لكن ماأزال هذا اللبس ووضح الغاية هو التلاؤم الناتج عن النظم البديع الذي جعل اللفظتين تؤديان دورهما وفق موقع كل واحدة منهما في الآية فصارتا أو انتقلتا من ذلك اللفظ المستكره إلى لفظ مستحسن مدهش: أدهش السامع وحلق بخياله وفق تماسك ومؤانسة إلى معنى بليغ يخدم المراد.
ومثال ذلك فلو أخذنا لفظة " كلب" بمفردها لكان معناها قدحيا لمن وصف أو اجتمع أو اقرن اسمه باسمها ، لكن السياق القرآني جلها وعظمها في سورة الكهف وفق سياق يخدم المعنى بإمتياز وذلك في قوله تعالى : " يقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة ثامنهم كلبهم " ، كما وردت اللفظة نفسها أي لفظة " كلب " بصورة مشينة لكنها تخدم المعنى وفق جاراتها من الألفاظ بأسلوب أصيل وذلك مصداقا لقوله تعالى في سورة الأعراف: "مثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ".3
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني تعليق محمد محمود شاكر ص:44.
(2) المرجع السابق نفسه ص: 45.
(3) سورة الأعراف الآية: 176.
أهمية النظم في الفصاحة والبلاغة:
تعريف النظم لغة : يرادف التأليف، نقول نظمت اللؤلؤ أي جمعته في خيط ، والتنظيم مثله، ومنه نظمت الشعر، ويسمى الشاعر ناظما لنظمه للكلمات. ونقول نظمت المرأة شعر ابنتها والنظم هو إقران الشئ بشيء بآخر وضم بعضة إلى بعض.
تعريف النظم اصطلاحا: هو تنسيق دلالة الألفاظ وتلاقي معانيها بما تقوم عليه معاني النحو المتخيرة والموضوعة في أماكنها على الوجه الذي يقتضيه العقل.
إن النظم أساسي في ربط الفصاحة بالبلاغة وفق سياق يوحده المعنى، حتى لا تقتصر الفصاحة عاى المعنى فقط، والحديث عن نظم الكلام وتأليفه أو ترتيب أجزائه لم يظفر بعناية الباحثين إلا في أوائل العصر العباسي حينما كثر التاليف حول القرآن الكريم والأدب العربي عامة، فبالرغم من أن العصر الجاهلي اشتهر أهله بالفصاحة وذلاقة اللسان وبلغت لغتهم من الرقي والحضارة والغنى مبلغا عظيما حتى كانت جديرة بأن يختارها المولى عز وجل، لكن لم ترد عندهم هذه الفنية على الشكل العلمي المحدد كما ألفناها مع السكاكي ومن لف لفه، لكن وردت عندهم أحكام نقدية تركزت في جمل صارت على كافة الألسنة، كقولهم: " أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب، وزهير إذا رغب ، والنابغة إذا رهب، والأعشىإذا طرب...." ، ليأتي القرآن ببلاغته نظمه وفصاحته معجزا لهم ومحيرا لعقولهم.
خطاطة توضيحية لأهمية وقع النظم على اللفظ والمعنى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعريف مفهوم النظم داخل البيئة الطبيعية: معناه أنه لو قدر للطير وهي تبني عشها وللعنكبوت وهي تنسج شعها وللنحل وهي تبني خليتها لقلنا أنهم يمارسون نشاطا إبداعيا منتظما وفق تاليف وهندسة محكمة غرضها و معناها الاستمرار والبقاء.
اللفظ كسمكة إذا أخرجت من بحر المعنى ماتت.
تطبيــــــــــــــق :
1- خط الكاتب بيده رسالة.
2- الرسالة خطت بيد الكاتب.
3- خط الكاتب رسالة بأنامل ذهبية.
4- سال شعور الكاتب حبرا على ورقة بيضاء، تتوهج شرارا لذلك البعيد، تمهله صبرا وتقدم له عذرا
5- لسعني القلم لسعة ثم سقط على الورقة البيضاء ملتويا متخذا هيئة راكع و ساجد تجلله رهبة صمت الكاتب.
6- استيقظ القمر في سكون الليل ليداعب ( الذهبية ) أسرار النجوم.
تحليل الجمل:
المثال الأول هو عبارة عن جملة مفيدة تخدم المعنى وهو كتابة الرسالة فالسامع لهذا المثال يعتبره شيئا مألوفا لايثير إحساسا بالدهشة والإعجاب لديه كما أن تغيير مواقع الألفاظ كما في المثال الثاني قد يضعف أويزيد للمعنى قوة وذلك حسب اللفظة ومدى تأثيرها في شعور المتلقي .
أما في المثال الثالث فيشير المعنى إلى كون هذا الكاتب بارعا في الخط أوأنه يمتلك ملكة تعبير قوية حيث أخفيت الأداة وهي القلم ونابت عنها الأنامل كما هو الشأن في قوله تعالى:" واسأل القرية..." والتقدير هو "أهل القرية"، فالقارئ للمثال الثالث سيتحرك بداخله إحساس بمدى قدرة هذا الكاتب وبراعته انطلاقا من توظيف اللفظتين وجارتيها، "أنامل" و " ذهبية " وفق نظم حسن الملاءمة بين هاتين اللفظتين وجارتيهما ، أما المثال الرابع فهو عبارات منسوجة وفق نظم يخدم قصدية معينة فالسامع أو القارئ لهذه العبارات إذا لم يكن على دراية بعلم البيان سيغيب عنه تصور ما يجول في الأذهان من معنى ، فالألفاظ هنا وظفت بطريقة فنية ذات ذوق إبداعي يبث شعورا في المتلقي من خلال حسن وملائمة توظيف الألفاظ في مكانها المناسب "خيرا، شررا، صبرا، عذرا " فلو عريت هذه الألفاظ من السياق ما كان لها معنى بليغا و فصيحا ، فالشعور لايسيل، وإنما يفيض وكأن الكاتب يكتب هنا بمداد قلبه لابحبر القلم ، و الشرر يكون لونه أحمر أي يكتب بحرقة جعلت عود ثقابه قلمه يضرم نارا على الورقة تقديما لعذر التأخر عن الآخروبعدم نسيانه ، أما المثال الخامس فالمعنى الإجمالي هنا هو تمرد القلم على صاحبه الذي شلت يداه ولم يعد يطيق الكتابة، حيث صور لنا المخبرمدى معاناة القلم من سقوط والتواء وتوسل من أجل غرض إعادة الاعتبار للكتابة، لذا يجب تجنب التعقيد المعنوي في الفصاحة. أما المثال السادس فلفظ الذهبية عرقل وخلخل الربط التآلفي الدال على المعنى.
وقد استكره ابن الآثير طول العبارات بقوله: " ألا ترى أن الفصل الأول ثماني لفظات ، والثاني والثالث تسع تسع " أي يريد الإشارة أن الحرص على التصاعد الكمي في الشجع قد يؤدي إلى حذف ما يقتضيه المعنى، وهذا يعني وهو الأهم أن المعنى أصبح تابعا لامتبوعا وهذا هو التكلف بعينه ".1
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المثل السائر لأبن الآثير .ص: 96.
ومن بين الأمور المتكلف فيها قول بديع الزمان الهمدني مفضلا العرب على العجم بقوله: " العرب أوفى وأوفر وأوقى وأوقر وأنكى وأنكر واعلى وأعلم وأحلى وأحلم وأقوى وأوقر وأبلى وأبلغ وأشجى وأشجع وأسمى وأسمح وأعطى وأعطف وأحصى وأحصف " لكن تبقى القاعدة ، خير الكلام ما قل ودل وأنفع، فكلما طال الكلام كثر اللغط ومل السامع عذوبة اللفظ وغاب عنه المعنى.
قوة فصاحة وبلاغة القرآن الكريم في التأثير على الأنفس
إن الفصاحة والبلاغة في القرآن لمن الروابط المسبوكة في تحدي الجن والأنس للإتيان بمثل رقي هذا الكلام مصداقا لقوله تعالى: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن علي أن ياتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله..."1. وقوله تعالى: " فأتوا بعشر سور مثله ".2 .
فهذا تحدي الواثق في أسرار إعجازه لمخلوقاته وهو ما أكده الباقلاني بقوله : " إن نظم القرآن مخالف في بلاغته وإعجازه لمألوف كلام العرب " 3. حيث أن التظرية وهذا القول جاء سابقا لنظرية النظم عند الجرجاني لكن لم تتمطط مفاهيم معناها كما وقع في نظرية الجرجاني بل كانت لها بذور في بيئة المتكلمين.4.
فالقرآن بنظرة العيون الجرجانية ، كما قال الجرجاني : " لا يتفه ولايتشان(أي لايبلى ولا يضعف) " حيث يقول في ص:32 من كتابه دلائل الإعجاز:" لولا أنهم حين سمعوا القرآن، وحين اتحدوا إلى معارضته،سمعوا كلاما لم يسمعوا قط مثله وأنهم قد رازوا أنفسهم فأحسنوا بالعجز بأن يأتوا بما يوازيه ويدانيه" حيث يحاول عبد القاهر الجرجاني أن يلوح لنا ما أبهرهم، هي تلك المزايا في نظمه وخصائص صادفوها في سياق لفظه وبدائع صناعته ، فنقول لما لا وهو صالح لكل زمان ومكان فمهما تطورت اللغة العربية تبقى درجاته في الرتبة والسيادة فوق كل كلام فصيح وبليغ ، فهو الموضح والشارح لكل خلاف لغوي حيث يقول الجرجاني في كتاب بلاغة العطف في القرآن لعفت الشرقاوي ص:17 :" فأما نهج القرآن ونظمه وتاليفه ووصفه فإن العقول تتيه في جهته وتحار في بحره وتضل دون وصفه" .
وهنا يحضرني قول عمر بن الخطاب :" فلما سمعت القرآن رق له قلبي ودخلني الإسلام". وقول الوليد بن المغيرة:" والله إن في قوله لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه ليعلو وما يعلى عليه" لدا يبقى خير شاهد لتفسير القرآن حينما سئل احد العلماء عنه فأجابهم هو " الدهر".
كما اعتبر الجرجاني ترابط الألفاظ في النص القرآني قوله: "تعطي هيبة تحيط بالنفس من أقطارها من حيث هي صوت مسموع وحروف تتوالى في النطق بين اللفظ والمعنى في اتساق عجيب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الإسراء، الآية : 88.
(2) سورة هود، الآية: 14.
(3) بلاغة العطف في القرآن الكريم لعفت الشرقاوي.
(4) لم يزل في عصرنا الحديث من يعجب بنظرية الجرجاني ويقيسها بنظرية ريتشارد في نقد الشعر، وقد بلغ من إعجاب د.محمد مندور بها أن وصفها بأنها تتفق مع أحدث ما وصل إليه علم اللغة في استخدام المنهج اللغوي ( الفيلولوجي ) في نقد النصوص / انظرالنقد المنهجي عند العرب ص: 273.
النظرية الجرجانية وعمق بلاغتها في الدلالة الإعجازية للقرآن
في رأي كثيرمن الباحثين أن عبد القاهر قد وضع لكتايبه "أسرار البلاغة " و " دلائل الإعجاز " نظرية النظم العربي التي لاتزال إلى حد كبير تسيطر على التفكير البلاغي عند كثير من المعاصرين، فقد فسر نظرية النظم وخصوصا في كتابه " دلائل الإعجاز "تفسيرا يردها فيه إلى فكرة المعاني الثانية، أو إلى المعاني التي تلتمس في تركيب الكلام، وهي فكرة كانت جديدة في ذلك الوقت، وقد يقال أن هناك ملاحظات ومصطلحات مما ذكر تناثرت في أعمال من سبقوه غير ان هذا ينبغي أن لايضللنا أنه جمع ملاحظات سابقيه وإن يكن ، فالاختلاف الجرجاني كان أدق في نقل الحملات اللفظية عن طريق المعنى وفق نسج أدبي بامتياز، ففضيلة الفصاحة والبلاغة لاتعود عند عبد القاهر الجرجاني إلى اللفظ من حيث اللفظ وإنما تعود إلى النظم وترتيب الكلام وفق ترتيب معانيه في النفس من خلال الاهتداء إلى جمال التعبير النحوي البليغ أيضا ، فملامح العبارة القرآنية في النظرية الجرجانية تهدف إلى التحليل الشكلي لامكانات التعبير في صوره المختلفة لتأكيد المناسبة بين صورة العبارة والسبيل إلى تحقيق المعنى وتأكيده في ذهن السامع ، فالفصاحة والبلاغة غايتان أوليتان في منهج عبد القاهر الجرجاني ، لأن قضية الإعجاز عنده هي قضية " إبلاغ بلاغتي" بالعثور على الصورة المثلى لتحقيق المعنى و تاكيده في ذهن السامع، وتحقيق القول في فصاحة الكلام وبلاغته عنده، هو اعتبار حال المنظوم بعضه ببعض وانه نظير الصياغة والتفويق ( الرقة وتتعدد الألوان) ، وهو ما أكده أحمد فارس صاحب الحوائب بقوله : " هذا من حيث كون الألفاظ المفردة تركب جملا وتكسى من البلاغة حللا كنسبة العريان للكاسي والظمآن إلى الحاسي ولا ينكر ذلك إلا مكابر" 1.
وهذا ما أشار إليه عبد القاهر في قوله :" إن صياغة الألفاظ وترتيبها يتطلب الأول وهو المعنى، فلا يمكن لأحد أن ينظم كلاما دون صياغته لمعناه في الذهن حتى يستقيم التوجه ، فذلك إذا وجب المعنى أن يكون أولافي النفس وجب اللفظ الدال عليه أن يكون مثله أولا في النطق "2. ومعنى هذا القول أنه قبل النظم لابد من دراسة اللفظ وأثرمعناه حسب ترتيب المعاني في النفس، وليس ضم الشيء للشيء ، وإنما ينبغي مراعاة النسج و التأليف والصياغة والبناء وما أشبه ذلك مما يوجب اعتبار الأجزاء بعضها ببعض.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) معجم لسان العرب لابن منظور ص: 5.
(2) دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني ص: 43
شروط وجوب الفصاحة وما يجب تجنبه فيها
من شروط العلماء في اللفظ المفردة : أن تكون عذبة في النطق مألوفة في الاستعمال صحيحة في الصرف والإعراب.
والتركيب البليغ هو المفهوم عند القراءة ، اليسيرُ في النطق لدى اللسان , الخالي من التكرار.
وبعبارة أخرى : التركيب البليغ ما كان سَلِسًا عذبًا في جهاز الإرسال , وهو الفم , لَيِّنًا ولطيفًا على جهاز الاستقبال , وهو الأذن , سالكًا في أجهزة القلب والعقل والوجدان طريقه المقصود.
ولكي يقال أن الألفاظ فصيحة يجب تجنب العناصرالتالية:
● تنافر الحروف، بأن لاتكون الكلمة ثقيلة على السمع صعبة على اللسان عسيرة مثل:" الهعخع "، و"مستشزرات" .قال: امرؤ القيس:
غدائرها مسـتـشـرزات إلى العلا تضل العقاص في مثنى ومرسل.
● غرابة الاستعمال، وهي كون الكلمة غير ظاهرة المعنى، ولامألوفة الاستعمال عند العرب نحو: " تكأكأتم " ، حيث قال : عيسى بن عمروالنحوي حين وقع من حماره واجتمع عليه الناس، "ما لكم تكأكأتم علي، كتكأكئكم على ذي جنة، افرنقعوا عني".وكذلك " الفدوكس " و"الهرماس" اسمان للأسد.1
● مخالفة القياس بأن تكون الكلمة شاذة، على خلاف القانون الصرفي المستنبط من كلام العرب، نحو: "الاجلل" مخالفة للقياس، والقياس"الأجل" بالإدغام.قال: أبو النجم:
الحمـدلله العـلي الأجـــلل الواحد الفــرد القــديم الأول.
● الكراهة في السمع، بأن تكون الكلمة وحشية، تمجها الأسماع، كما تمج الأصوات المنكرة، نحو:" الجرشى" بمعنى النفس. قال: المتنبي:
مبارك الاسم أغـر اللقــب كــريم الجرشى شريف النسب.
● التعقيد اللفظي، بأن تكون الكلمات مرتبة على خلاف ترتيب المعاني. قال: المتنبي:
جفخت وهم لايجفخون بها بهم شيم على الحسب الأغر دلائــل.
و الأصل: جفخت بهم شيم دلائل على الحسب الأغر وهم لايجفخون بها.
● التعقيد المعنوي، بأن يكون التركيب خفي الدلالة على المعنى المراد بسبب إيراد اللوازم البعيدة، المحتاجة إلى إعمال الذهن، حتى يفهم المقصود.قال :عباس بن الاحنف:
سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا وتسكب عيناي الدموع لتجمدا.
أراد بجمود العين: الفرح والسرور الموجب لعدم البكاء.
● كثرة التكرار، بأن يكرر اللفظ الواحد، فيأتي به مرتين أو أكثر.قال: أبو الطيب المتنبي:
ولا الضعف حتى يتبع الضعف ضعفه ولا ضعف صعف الضعف بل مثله ألف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) www.islamacademy.net.
خــلاصـــة
نخلص من هذه الدراسة إلى ان العرب كثيرو الاهتمام بالفصاحة والبلاغة والبيان، وأنهم بلغوا أسمى المراتب في تذوق جماليات لغتهم وأسرارها والاستراحة إليها، فالفصاحة عندهم سمة من سمات الأداء الكلامي، وهي بقدر ما تتعلق بالمفردات والتراكيب- على تفاوت بين النقاد والبلاغيين في حضور المعنى هنا- تتعلق بالمتكلم أيضا.
فمهما قيل وماسيقال يبقى مفهوم المعنى الجامع للفصاحة والبلاغة زئبقي المسك، إلا وفق سياق يشده ويوجهه مسار تآلفي شبيه بالنظرية النظمية التي وضحت وأفادت بمساراتها البليغة عن الكثير من النصوص المركبة تركيبا خاليا من حلل السياق الجمالي، إذا نقول، لقد قدر لهذه النظرية الجرجانية، أن تلقى ما لقيت من الاهتمام والاستمرار والمتابعة على أيدي كثير من الباحثين، فقد آن الآوان معاشر الباحثين والدارسين للبحث عن مناهج جديدة تطور ماتركه السلف للخلف.
كلية الآداب والعلوم الإنسانية تخصص: لسانيات
سايس – فاس
ماستر اللغة العربية والنظريات اللسانية
مادة: النظـــــــــم.
عنوان العرض
إعداد كل من الطلبة: الأستاذ المشرف على المادة:
- سهام عبد الكبـيـــــــر.
- يونس بن عــــــــلال. د.أحمد العبدلاوي العلوي.
- إدريس الوالي العلمي.
الموسم الدراسي:
2009 – 2010.
1- تمهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيد.
2- تعريف الفصاحة والبلاغة لغـــــــــــــــــة واصطلاحـــــــــــا.
3- أوجه الائتلاف والاختلاف بين الفصاحـــــــة البلاغـــــــــــــة.
4- أهمية النظــــــــــــــــم في الفصاحــــــــــة والبلاغــــــــــــــة.
5- خطاطــــــــــــــــــــــــــــــــة توضيحيــــــــــــــــــــــــــــــــة.
6- قوة فصاحـــــــــة وبلاغـــــــة القرآن في التأثير على النفـــس.
7- النظرية الجرجانية وعمق بلاغتها في الدلالة الإعجازية للقرآن.
8- شروط وجوب الفصاحـــــــــــــــة ومايجـــــب تجنبـــــه فيها.
8- خلاصـــــــــــــــــــــــــــــــة.
1- دلائل الإعجاز" عبد القاهر الجرجاني ":- تحقيق محمد رشيد رضا.
- تحقيق محمد محمود شاكر.
2- سر الفصاحة " ابن سنان الخفاجـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي ".
3- بلاغــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة العطف في القرآن " عفت الشرقاوي".
4- أساس البلاغــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة " الزمخشري ".
5- البلاغــــــــــــــــــــــــــــتـة العربية وعلم المعاني "عد العزيز عثيق".
6- المثــــــــــــــــــــــــــــــــل السائر " أبو الفتح ضياء الدين الموصلي".
7- في بلاغــــــــــــــــــــــــــــــــــة النظم العربي " عبدالعزيز العطي".
8- عبد القاهر الجرجانـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي " أحمد أحمد بدوي.
www.islamacademy.net
بسم الله الرحمن الرحيم،
سبحان الذي تخشعت من كلامه الجبال وتصدعت اندهشت الجن وتعجبت واهتزت القلوب واطمأنت وسالت الدموع وانقشعت وألهمت الألسنة البلاغة وأفصحت وارتقت الأنفس وتعالت والصلاة والسلام على أشرف الخلق وطب القلوب شافي الأسقام والمنجي من الكروب النبي المحبوب.
بادئ ذي بدء، تحية علمية مفادها الاحترام والتقدير لأستادنا الفاضل أحمد العبدلاوي العلوي وإلى جميع الطلبة والطالبات من سلك ماستر اللغة العربية والنظريات اللسانية، كما نرجوا من خلال عرضنا المتواضع هذا من أن تتم الفائدة المتوخاة فيما بيننا حتى يثرى النقاش وينبذ الانكماش وتروى الكلمات العطاش في حضرة موضوع الإعجاز بكل قابلية وانتعاش.
أما بعد،
هانحن نقف وقفة تأمل بمد البصراللامتناهي أمام عمودين من أصلب أعمدة التواصل اللغوي الإنساني، باعتبارهما ذلك الأساس الذي تبنى عليه جسور اللغة العربية وفق هندسة تأليفية تشد رباط الأمان في إيفاء وإيصال المقصود النابع من اللسان (اللفظ) والمستقر في الأذهان (المعنى) وفق حميمية تمازج وتناغم فني إيحائي.
فحيهلا بموضع كثر فيه الكلام بين شداق وحداق لما لا وهو موضوع من المواضيع الوازنة لكونها شرف العرب في كشف ضيق الغمة والتعريف بقوة وموروث لغة هذه الأمة الفصاحة والبلاغة، المفتاحان الذهبيان لدخول مملكة علم الكلام في فهم دلائل إعجاز القرآن وغيره.
فكما نعلم أن كلا من اللساني وعالم الأنتربولوجيا والفيلسوف والمنطقي والبلاغي والفقيه اللغوي والنحوي والشاعر وغيرهم يتلهف رعشة شوق للمزيد من اكتشاف أسرار بحور اللغة العربية راكبا لزورق الفصاحة ومادا لأشرعة البلاغة فوق مياه معان مترابطة لدرجة الذوبان والصفاء والانقشاع وفق نظم كلامي عجيب مشكلا جسر حبل سري موصل للعملية التواصلية الحقة في اللغة. فما هي الفصاحة والبلاغة إذن؟
تعريف الفصاحة والبلاغة:
الفصاخة لغة:الظهور والبيان، ومنها نقول :" فصح اللبن، إذا انجلت رغوته وبان زبده " وقول الشاعر أيضا : " وتخت الرغوة اللبن الفصيح " والكتاب العزيز، قال الله تعالى: "وأخي هارون هو أفصح مني لسانا " أي أوضح وأبين. وقد علق الجاحظ على هذه الآية بأن موسى عليه السلام قال ذلك " رغبة في غاية الإفصاح بالحجة، والمبالغة في وضوح الدلالة لتكون الأعناق إليه أميل، والعقول عنه أفهم، والنفوس إليه أسرع".
وهو ما يوضّح جلياً أن مفهوم الفصاحة "يعني القدرة على الأداء الصوتي الصحيح الذي يتسم(...) بوضوح النطق من ناحية وطلاقة اللسان من جهة أخرى، في مقابل مفهوم العيّ، بمعنى عدم القدرة على الأداء الصوتي الصحيح أو ظهور الانحرافات الصوتية".
وكذلك السيوطي حين تطرق إلى معرفة الفصيح، وأشار إلى أنه يتعلق بجانبين: جانب اللفظ وجانب المتكلم، لكن اللفظ أخص من المتكلم " لأن العربي الفصيح قد يتكلم بلفظة لا تُعَدُّ فصيحة".
أما الفصاحة اصطلاحا: عبارة عن الألفاظ الظاهرة المألوفة الاستعمال عند العرب، وتكون وصفا للكلمة والكلام والمتكلم، فيقال: كلمة فصيحة، وكلام فصيح، ومتكلم فصيح. ومعناه كذلك وصول الكلام غايته من الوضوح والبيان أي يكون الكلام منضبطا لغويا ونحويا مطابقا لجميع القواعد المعروفة.
تعريف البلاغة :
البلاغة لغة: معناها الوصول والانتهاء، قال تعالى في سورة يوسف الآية:22 : " ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما " أي : وصل.
البلاغة اصطلاحا: هي التعبير عن المعنى الجليل تعبيرا يثير قي نفس القارئ والسامع مشاعر وخواطر تؤثرقيه ، وتحمل إليه المتعة بما في التعبير من جمال الآداب مع ملاءمة كل كلام للموطن الذي يقال فيه والأشخاص الذي يوجه إليهم ، أي مراعاة مقتضى الحال مثلا لمقام هول الكلام ولمقام جد الكلام ولكل مقام مقال .
وظيفة البلاغة: تزود القارئ بمعرفة الوسائل التي يستعين بها الأديب في التعبير وتعريفه الأسلوب الأدبي، وتهيئ له أن يستوعب الفروق بينه وبين غيره من أساليب الكلام العادي، كما تقدم له دراسة استخدام الألفاظ، وبناء الجملة والعبارة والصورة وتوضح له أثر ذلك في نجاح العمل الأدبي ، أو قصوره في أن ينقل إلى السامع ا و القارئ ما أراد الأديب أن ينقله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المعنى الدلالي الحرفي لكلمة فصاحة: الفاء: فسحة ،الصاد: صوت، والألف: ألفة، والحاء: حكمة ، والتاء: ترابط. والمعنى الجامع هو:" فسحة الصوت وألفة الترابط الحكيم ".
المعنى الدلالي الحرفي لكلمة بلاغة: هي لفظة خماسية بها تشد عرى الوضوح وسلامة النطق، وهي كالآتي: الباء: بيان، واللام: لمحة، والألف: أنس، والغاء: غلة، والتاء: تمرة. والمعنى الجامع هو:" تمرة غلة ولمحة أنس وبيان ".
أوجه الاختلاف والائتلاف بين الفصاحة والبلاغة :
تعددت الآراء واختلف تجاه المفهومين، فالعديد من العلماء أجمعوا عن معنى البلاغة، لكنهم اختلفوا في معنى الفصاحة، واختلافهم راجع إلى اللفظ والمعنى.
فمنهم من يقول أن الفصاحة مختصة باللفظ، والبلاغة مختصة بالمعنى أي أن اللفظ يكون فصيحا ولايقال عنه بليغا، إلا إذا كان في جملة تبلغ المعنى المنشود فيصبح بليغا.
فجعلوا الفرق بينهما أي الفصاحة والبلاغة، أنه يقال للفظة فصيحة ولا يقال لها بليغة، بينما الكلام عندهم فصيح وبليغ ومن بين هؤلاء البلاغيين، ابن سنان الخفاجي في كتابه " سر البلاغة "حيث يقول: " الفصاحة مقصورة علي وصف الألفاظ والبلاغة لاتكون إلا وصفا للألفاظ مع المعاني فلا يقال عن كل كلمة واحدة لاتدل على معنى وإن قيل فيها فصيحة وكل كلام بليغ فصيح وليس كل فصيح بليغا".1
ويقول في مكان آخر من الكتاب: " الفصاحة نعت الألفاظ إذا وجدت على شروط عدة ومتى تكاملت تلك الشروط فلا مزيد على فصاحة تلك الألفاظ ".
ويقسم ابن خفاجة الفصاحي إلى قسمين قسم يرجع اللفظ وحده، وقسم يعود إلى التأليف، فإن ابن الأثيريرى"أن الكلام الفصيح هو الظاهر البين ، وأعني بالظاهر البين أن تكون ألفاظه مفهومة لاتحتاج في فهمها إلى استخراج من كتاب لغة ، وإنما كانت بهذه الصفة ، لأنها تكون مألوفة الاستعمال بين أرباب النظم ........إلى قوله ولكن أرباب اللغة غربلوا اللغة باعتبارالألفاظ وسبروا وقسموا، فاختاروا الحسن من الحسن من الألفاظ بسبب استعمالها دون غيرها، فالفصيح إذا من الألفاظ هو الحسن". انظر الخطاطة.
الفصاحة البلاغة
اللفــــــظ الكـــــــــلام المعنـــــى
فعبد القاهر الجرجاني يقف طرفي نقيض معهما، فقد كان بفكره الكلي يجعل مدار الفصاحة على النظم الذي هو تلاؤم اللفظة مع أخواتها السابقة أو اللاحقة وممن أخذ برأي الجرجاني يحيى بن حمزة العلوي في كتاب " الطراز " حيث قال :" اعلم أن الألفاظ إذا كانت مركبة لإفادة المعنى فإنها يحصل لها بمزية التركيب حظ لم يكن حاصلا مع الأفراد".
وهذا ما أكده الجرجاني في كتابه دلائل الإعجازحيث يقول:" فقد اتضح إذن اتضاحا لايدع للشك مجالا أن الألفاظ لاتتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة ، ولامن حيث هي كلم مفردة، وأن الألفظ تثبت لها الفضيلة وخلافها في ملاءمة معنى اللفظة لمعنى التي تليها أو ما أشبه ذلك ممالا تعلق له بصريح اللفظ ومما يشهد لذلك أنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع ثم تراها بعينيها تنقل عليك وتوحشك في موضع آخر كلفظ "الأخدع " في بيت الحماسة للشاعر عبد اللطيف بن طفيل بن الحارث:
تلفت نحو الحي حتى وجدتني وجعت من الإصغاء ليتا وأخدعا1
وبيت النحتري:
وإني وإن بلغتني شرف الغنى وأعتقت من رق المطامع أخدعي2
انظر الخطاطة التوضحية:
النظـــــــــــم
الحرف كلمة جملة
تقارب المخارج تباعد المخارج تكرار مطابقة القياس عدم الإطناب في طول العبارات
هخهخ لفظة مستحسنة وقبر حرب بمكان قفر "الحمد لله العلي الآجلل
تكاكأتم وليس قرن قبر حرب قبر.3
السماع / الكتابة
السياق
الفصاحة البلاغة
نظم
سلامة النطق التوازي الصوتي النحو دقة المعنى عدم الإفراط في تكثيف
الحمولة البلاغية ( التصنع) الألفاظ مغلقة على معانيها حتى
يكون الإعراب مفتاحها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الليت : صفحة العنق . الأخدعان : عرقان في جانبي العنق قد خفيا وبطنا.
(2) دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني ص: 47.
(3) عبد القاهر الجرجاني لأحمد أحمد بدوي ص:103.
إضافة: يقول : أبو القاسم الآمدي وهو مؤيد للجرجاني بقوله: الفصاحة صنو البلاغة، فالفصاحة وجه في وجوه البلاغة ، كما عرفها بأنها: " إصابة المعنى وإدراك الغرض بألفاظ سهلة و كافية لاتبلغ الهدر الزائد ولا تنقص نقصا يحول دون الغاية....".
كما بين الجرجاني أيضا أن الفصاحة لا تقتصر على اللفظ بل هي في المعنى أيضا وهذا هو الأهم حيث يقول : " وهل تجد أحدا يقول: "هذه اللفظة فصيحة إلاوهو يعتبر مكانها في النظم وحسن ملاءمة معانها لمعنى جاراتها وفضل مؤنستها لأخوانها".1 .
مثــــــــال
الفصاحة الفصاحة
اللفظ العنى الألـفــــــــــــاظ المعنى
محمد
تجري
التمازج والمؤانسة الشمس وجهه منير و مشرق
في
وجهه
التركيبة الكلامية
ثم يضيف قائلا : "وهل قالوا لفظة متمكنة ومقبولة وفي خلافها : قلقة ونابية ومستكرهة إلا وغرضهم أن يعبروا بالتمكن عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناهما وبالقلق والنبو عن سوء التلاؤم أن الأولى لم تلق بالثانية في معناها وأن السابقة لم تصلح أن تكون لفقا للتالية في مؤداها".2
لكن ماأزال هذا اللبس ووضح الغاية هو التلاؤم الناتج عن النظم البديع الذي جعل اللفظتين تؤديان دورهما وفق موقع كل واحدة منهما في الآية فصارتا أو انتقلتا من ذلك اللفظ المستكره إلى لفظ مستحسن مدهش: أدهش السامع وحلق بخياله وفق تماسك ومؤانسة إلى معنى بليغ يخدم المراد.
ومثال ذلك فلو أخذنا لفظة " كلب" بمفردها لكان معناها قدحيا لمن وصف أو اجتمع أو اقرن اسمه باسمها ، لكن السياق القرآني جلها وعظمها في سورة الكهف وفق سياق يخدم المعنى بإمتياز وذلك في قوله تعالى : " يقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة ثامنهم كلبهم " ، كما وردت اللفظة نفسها أي لفظة " كلب " بصورة مشينة لكنها تخدم المعنى وفق جاراتها من الألفاظ بأسلوب أصيل وذلك مصداقا لقوله تعالى في سورة الأعراف: "مثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ".3
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني تعليق محمد محمود شاكر ص:44.
(2) المرجع السابق نفسه ص: 45.
(3) سورة الأعراف الآية: 176.
أهمية النظم في الفصاحة والبلاغة:
تعريف النظم لغة : يرادف التأليف، نقول نظمت اللؤلؤ أي جمعته في خيط ، والتنظيم مثله، ومنه نظمت الشعر، ويسمى الشاعر ناظما لنظمه للكلمات. ونقول نظمت المرأة شعر ابنتها والنظم هو إقران الشئ بشيء بآخر وضم بعضة إلى بعض.
تعريف النظم اصطلاحا: هو تنسيق دلالة الألفاظ وتلاقي معانيها بما تقوم عليه معاني النحو المتخيرة والموضوعة في أماكنها على الوجه الذي يقتضيه العقل.
إن النظم أساسي في ربط الفصاحة بالبلاغة وفق سياق يوحده المعنى، حتى لا تقتصر الفصاحة عاى المعنى فقط، والحديث عن نظم الكلام وتأليفه أو ترتيب أجزائه لم يظفر بعناية الباحثين إلا في أوائل العصر العباسي حينما كثر التاليف حول القرآن الكريم والأدب العربي عامة، فبالرغم من أن العصر الجاهلي اشتهر أهله بالفصاحة وذلاقة اللسان وبلغت لغتهم من الرقي والحضارة والغنى مبلغا عظيما حتى كانت جديرة بأن يختارها المولى عز وجل، لكن لم ترد عندهم هذه الفنية على الشكل العلمي المحدد كما ألفناها مع السكاكي ومن لف لفه، لكن وردت عندهم أحكام نقدية تركزت في جمل صارت على كافة الألسنة، كقولهم: " أشعر الناس امرؤ القيس إذا ركب، وزهير إذا رغب ، والنابغة إذا رهب، والأعشىإذا طرب...." ، ليأتي القرآن ببلاغته نظمه وفصاحته معجزا لهم ومحيرا لعقولهم.
خطاطة توضيحية لأهمية وقع النظم على اللفظ والمعنى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعريف مفهوم النظم داخل البيئة الطبيعية: معناه أنه لو قدر للطير وهي تبني عشها وللعنكبوت وهي تنسج شعها وللنحل وهي تبني خليتها لقلنا أنهم يمارسون نشاطا إبداعيا منتظما وفق تاليف وهندسة محكمة غرضها و معناها الاستمرار والبقاء.
اللفظ كسمكة إذا أخرجت من بحر المعنى ماتت.
تطبيــــــــــــــق :
1- خط الكاتب بيده رسالة.
2- الرسالة خطت بيد الكاتب.
3- خط الكاتب رسالة بأنامل ذهبية.
4- سال شعور الكاتب حبرا على ورقة بيضاء، تتوهج شرارا لذلك البعيد، تمهله صبرا وتقدم له عذرا
5- لسعني القلم لسعة ثم سقط على الورقة البيضاء ملتويا متخذا هيئة راكع و ساجد تجلله رهبة صمت الكاتب.
6- استيقظ القمر في سكون الليل ليداعب ( الذهبية ) أسرار النجوم.
تحليل الجمل:
المثال الأول هو عبارة عن جملة مفيدة تخدم المعنى وهو كتابة الرسالة فالسامع لهذا المثال يعتبره شيئا مألوفا لايثير إحساسا بالدهشة والإعجاب لديه كما أن تغيير مواقع الألفاظ كما في المثال الثاني قد يضعف أويزيد للمعنى قوة وذلك حسب اللفظة ومدى تأثيرها في شعور المتلقي .
أما في المثال الثالث فيشير المعنى إلى كون هذا الكاتب بارعا في الخط أوأنه يمتلك ملكة تعبير قوية حيث أخفيت الأداة وهي القلم ونابت عنها الأنامل كما هو الشأن في قوله تعالى:" واسأل القرية..." والتقدير هو "أهل القرية"، فالقارئ للمثال الثالث سيتحرك بداخله إحساس بمدى قدرة هذا الكاتب وبراعته انطلاقا من توظيف اللفظتين وجارتيها، "أنامل" و " ذهبية " وفق نظم حسن الملاءمة بين هاتين اللفظتين وجارتيهما ، أما المثال الرابع فهو عبارات منسوجة وفق نظم يخدم قصدية معينة فالسامع أو القارئ لهذه العبارات إذا لم يكن على دراية بعلم البيان سيغيب عنه تصور ما يجول في الأذهان من معنى ، فالألفاظ هنا وظفت بطريقة فنية ذات ذوق إبداعي يبث شعورا في المتلقي من خلال حسن وملائمة توظيف الألفاظ في مكانها المناسب "خيرا، شررا، صبرا، عذرا " فلو عريت هذه الألفاظ من السياق ما كان لها معنى بليغا و فصيحا ، فالشعور لايسيل، وإنما يفيض وكأن الكاتب يكتب هنا بمداد قلبه لابحبر القلم ، و الشرر يكون لونه أحمر أي يكتب بحرقة جعلت عود ثقابه قلمه يضرم نارا على الورقة تقديما لعذر التأخر عن الآخروبعدم نسيانه ، أما المثال الخامس فالمعنى الإجمالي هنا هو تمرد القلم على صاحبه الذي شلت يداه ولم يعد يطيق الكتابة، حيث صور لنا المخبرمدى معاناة القلم من سقوط والتواء وتوسل من أجل غرض إعادة الاعتبار للكتابة، لذا يجب تجنب التعقيد المعنوي في الفصاحة. أما المثال السادس فلفظ الذهبية عرقل وخلخل الربط التآلفي الدال على المعنى.
وقد استكره ابن الآثير طول العبارات بقوله: " ألا ترى أن الفصل الأول ثماني لفظات ، والثاني والثالث تسع تسع " أي يريد الإشارة أن الحرص على التصاعد الكمي في الشجع قد يؤدي إلى حذف ما يقتضيه المعنى، وهذا يعني وهو الأهم أن المعنى أصبح تابعا لامتبوعا وهذا هو التكلف بعينه ".1
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المثل السائر لأبن الآثير .ص: 96.
ومن بين الأمور المتكلف فيها قول بديع الزمان الهمدني مفضلا العرب على العجم بقوله: " العرب أوفى وأوفر وأوقى وأوقر وأنكى وأنكر واعلى وأعلم وأحلى وأحلم وأقوى وأوقر وأبلى وأبلغ وأشجى وأشجع وأسمى وأسمح وأعطى وأعطف وأحصى وأحصف " لكن تبقى القاعدة ، خير الكلام ما قل ودل وأنفع، فكلما طال الكلام كثر اللغط ومل السامع عذوبة اللفظ وغاب عنه المعنى.
قوة فصاحة وبلاغة القرآن الكريم في التأثير على الأنفس
إن الفصاحة والبلاغة في القرآن لمن الروابط المسبوكة في تحدي الجن والأنس للإتيان بمثل رقي هذا الكلام مصداقا لقوله تعالى: " قل لئن اجتمعت الإنس والجن علي أن ياتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله..."1. وقوله تعالى: " فأتوا بعشر سور مثله ".2 .
فهذا تحدي الواثق في أسرار إعجازه لمخلوقاته وهو ما أكده الباقلاني بقوله : " إن نظم القرآن مخالف في بلاغته وإعجازه لمألوف كلام العرب " 3. حيث أن التظرية وهذا القول جاء سابقا لنظرية النظم عند الجرجاني لكن لم تتمطط مفاهيم معناها كما وقع في نظرية الجرجاني بل كانت لها بذور في بيئة المتكلمين.4.
فالقرآن بنظرة العيون الجرجانية ، كما قال الجرجاني : " لا يتفه ولايتشان(أي لايبلى ولا يضعف) " حيث يقول في ص:32 من كتابه دلائل الإعجاز:" لولا أنهم حين سمعوا القرآن، وحين اتحدوا إلى معارضته،سمعوا كلاما لم يسمعوا قط مثله وأنهم قد رازوا أنفسهم فأحسنوا بالعجز بأن يأتوا بما يوازيه ويدانيه" حيث يحاول عبد القاهر الجرجاني أن يلوح لنا ما أبهرهم، هي تلك المزايا في نظمه وخصائص صادفوها في سياق لفظه وبدائع صناعته ، فنقول لما لا وهو صالح لكل زمان ومكان فمهما تطورت اللغة العربية تبقى درجاته في الرتبة والسيادة فوق كل كلام فصيح وبليغ ، فهو الموضح والشارح لكل خلاف لغوي حيث يقول الجرجاني في كتاب بلاغة العطف في القرآن لعفت الشرقاوي ص:17 :" فأما نهج القرآن ونظمه وتاليفه ووصفه فإن العقول تتيه في جهته وتحار في بحره وتضل دون وصفه" .
وهنا يحضرني قول عمر بن الخطاب :" فلما سمعت القرآن رق له قلبي ودخلني الإسلام". وقول الوليد بن المغيرة:" والله إن في قوله لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه ليعلو وما يعلى عليه" لدا يبقى خير شاهد لتفسير القرآن حينما سئل احد العلماء عنه فأجابهم هو " الدهر".
كما اعتبر الجرجاني ترابط الألفاظ في النص القرآني قوله: "تعطي هيبة تحيط بالنفس من أقطارها من حيث هي صوت مسموع وحروف تتوالى في النطق بين اللفظ والمعنى في اتساق عجيب.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الإسراء، الآية : 88.
(2) سورة هود، الآية: 14.
(3) بلاغة العطف في القرآن الكريم لعفت الشرقاوي.
(4) لم يزل في عصرنا الحديث من يعجب بنظرية الجرجاني ويقيسها بنظرية ريتشارد في نقد الشعر، وقد بلغ من إعجاب د.محمد مندور بها أن وصفها بأنها تتفق مع أحدث ما وصل إليه علم اللغة في استخدام المنهج اللغوي ( الفيلولوجي ) في نقد النصوص / انظرالنقد المنهجي عند العرب ص: 273.
النظرية الجرجانية وعمق بلاغتها في الدلالة الإعجازية للقرآن
في رأي كثيرمن الباحثين أن عبد القاهر قد وضع لكتايبه "أسرار البلاغة " و " دلائل الإعجاز " نظرية النظم العربي التي لاتزال إلى حد كبير تسيطر على التفكير البلاغي عند كثير من المعاصرين، فقد فسر نظرية النظم وخصوصا في كتابه " دلائل الإعجاز "تفسيرا يردها فيه إلى فكرة المعاني الثانية، أو إلى المعاني التي تلتمس في تركيب الكلام، وهي فكرة كانت جديدة في ذلك الوقت، وقد يقال أن هناك ملاحظات ومصطلحات مما ذكر تناثرت في أعمال من سبقوه غير ان هذا ينبغي أن لايضللنا أنه جمع ملاحظات سابقيه وإن يكن ، فالاختلاف الجرجاني كان أدق في نقل الحملات اللفظية عن طريق المعنى وفق نسج أدبي بامتياز، ففضيلة الفصاحة والبلاغة لاتعود عند عبد القاهر الجرجاني إلى اللفظ من حيث اللفظ وإنما تعود إلى النظم وترتيب الكلام وفق ترتيب معانيه في النفس من خلال الاهتداء إلى جمال التعبير النحوي البليغ أيضا ، فملامح العبارة القرآنية في النظرية الجرجانية تهدف إلى التحليل الشكلي لامكانات التعبير في صوره المختلفة لتأكيد المناسبة بين صورة العبارة والسبيل إلى تحقيق المعنى وتأكيده في ذهن السامع ، فالفصاحة والبلاغة غايتان أوليتان في منهج عبد القاهر الجرجاني ، لأن قضية الإعجاز عنده هي قضية " إبلاغ بلاغتي" بالعثور على الصورة المثلى لتحقيق المعنى و تاكيده في ذهن السامع، وتحقيق القول في فصاحة الكلام وبلاغته عنده، هو اعتبار حال المنظوم بعضه ببعض وانه نظير الصياغة والتفويق ( الرقة وتتعدد الألوان) ، وهو ما أكده أحمد فارس صاحب الحوائب بقوله : " هذا من حيث كون الألفاظ المفردة تركب جملا وتكسى من البلاغة حللا كنسبة العريان للكاسي والظمآن إلى الحاسي ولا ينكر ذلك إلا مكابر" 1.
وهذا ما أشار إليه عبد القاهر في قوله :" إن صياغة الألفاظ وترتيبها يتطلب الأول وهو المعنى، فلا يمكن لأحد أن ينظم كلاما دون صياغته لمعناه في الذهن حتى يستقيم التوجه ، فذلك إذا وجب المعنى أن يكون أولافي النفس وجب اللفظ الدال عليه أن يكون مثله أولا في النطق "2. ومعنى هذا القول أنه قبل النظم لابد من دراسة اللفظ وأثرمعناه حسب ترتيب المعاني في النفس، وليس ضم الشيء للشيء ، وإنما ينبغي مراعاة النسج و التأليف والصياغة والبناء وما أشبه ذلك مما يوجب اعتبار الأجزاء بعضها ببعض.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) معجم لسان العرب لابن منظور ص: 5.
(2) دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني ص: 43
شروط وجوب الفصاحة وما يجب تجنبه فيها
من شروط العلماء في اللفظ المفردة : أن تكون عذبة في النطق مألوفة في الاستعمال صحيحة في الصرف والإعراب.
والتركيب البليغ هو المفهوم عند القراءة ، اليسيرُ في النطق لدى اللسان , الخالي من التكرار.
وبعبارة أخرى : التركيب البليغ ما كان سَلِسًا عذبًا في جهاز الإرسال , وهو الفم , لَيِّنًا ولطيفًا على جهاز الاستقبال , وهو الأذن , سالكًا في أجهزة القلب والعقل والوجدان طريقه المقصود.
ولكي يقال أن الألفاظ فصيحة يجب تجنب العناصرالتالية:
● تنافر الحروف، بأن لاتكون الكلمة ثقيلة على السمع صعبة على اللسان عسيرة مثل:" الهعخع "، و"مستشزرات" .قال: امرؤ القيس:
غدائرها مسـتـشـرزات إلى العلا تضل العقاص في مثنى ومرسل.
● غرابة الاستعمال، وهي كون الكلمة غير ظاهرة المعنى، ولامألوفة الاستعمال عند العرب نحو: " تكأكأتم " ، حيث قال : عيسى بن عمروالنحوي حين وقع من حماره واجتمع عليه الناس، "ما لكم تكأكأتم علي، كتكأكئكم على ذي جنة، افرنقعوا عني".وكذلك " الفدوكس " و"الهرماس" اسمان للأسد.1
● مخالفة القياس بأن تكون الكلمة شاذة، على خلاف القانون الصرفي المستنبط من كلام العرب، نحو: "الاجلل" مخالفة للقياس، والقياس"الأجل" بالإدغام.قال: أبو النجم:
الحمـدلله العـلي الأجـــلل الواحد الفــرد القــديم الأول.
● الكراهة في السمع، بأن تكون الكلمة وحشية، تمجها الأسماع، كما تمج الأصوات المنكرة، نحو:" الجرشى" بمعنى النفس. قال: المتنبي:
مبارك الاسم أغـر اللقــب كــريم الجرشى شريف النسب.
● التعقيد اللفظي، بأن تكون الكلمات مرتبة على خلاف ترتيب المعاني. قال: المتنبي:
جفخت وهم لايجفخون بها بهم شيم على الحسب الأغر دلائــل.
و الأصل: جفخت بهم شيم دلائل على الحسب الأغر وهم لايجفخون بها.
● التعقيد المعنوي، بأن يكون التركيب خفي الدلالة على المعنى المراد بسبب إيراد اللوازم البعيدة، المحتاجة إلى إعمال الذهن، حتى يفهم المقصود.قال :عباس بن الاحنف:
سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا وتسكب عيناي الدموع لتجمدا.
أراد بجمود العين: الفرح والسرور الموجب لعدم البكاء.
● كثرة التكرار، بأن يكرر اللفظ الواحد، فيأتي به مرتين أو أكثر.قال: أبو الطيب المتنبي:
ولا الضعف حتى يتبع الضعف ضعفه ولا ضعف صعف الضعف بل مثله ألف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) www.islamacademy.net.
خــلاصـــة
نخلص من هذه الدراسة إلى ان العرب كثيرو الاهتمام بالفصاحة والبلاغة والبيان، وأنهم بلغوا أسمى المراتب في تذوق جماليات لغتهم وأسرارها والاستراحة إليها، فالفصاحة عندهم سمة من سمات الأداء الكلامي، وهي بقدر ما تتعلق بالمفردات والتراكيب- على تفاوت بين النقاد والبلاغيين في حضور المعنى هنا- تتعلق بالمتكلم أيضا.
فمهما قيل وماسيقال يبقى مفهوم المعنى الجامع للفصاحة والبلاغة زئبقي المسك، إلا وفق سياق يشده ويوجهه مسار تآلفي شبيه بالنظرية النظمية التي وضحت وأفادت بمساراتها البليغة عن الكثير من النصوص المركبة تركيبا خاليا من حلل السياق الجمالي، إذا نقول، لقد قدر لهذه النظرية الجرجانية، أن تلقى ما لقيت من الاهتمام والاستمرار والمتابعة على أيدي كثير من الباحثين، فقد آن الآوان معاشر الباحثين والدارسين للبحث عن مناهج جديدة تطور ماتركه السلف للخلف.
الاشتراك في:
التعليقات (Atom)